يشن الجيش الإسرائيلي، منذ فجر الثلاثاء 8 يوليو 2014، حرباً شاملةً على قطاع غزة، ومهما كانت الأسباب، كخطف مستوطنين وقتلهم، لا يُبرر نحر شعب، بشبابه وعجائزه وأطفاله، واستباحة مدن وقرى، ومن أهلها من ليس لهم في الحرب رغبة ولا شأن، ويريدون السلام. هذا ما تحدث به مواطن فلسطيني قُصف منزله وقُتل أحد عشر شخصاً من عائلته، ولم يبق له إلا ولده وولد أخيه، ومع ذلك كان يتحدث بالسلام، ويُناشد لوقف نزيف الدم من الطرفين. كان يقولها عن وعي لا شرود، على الرغم من اختلاط أشلاء زوجته وأبنائه بأنقاض المنزل، كان يقف بين الأشلاء ويُنشد للسلام من غزة، لعله يُخجل ديمقراطيات العالم المتحضر. كُتب الكثير عن عذل حركة «حماس»، و«كتائب عز الدين القسام»، على ما جرّت إليه القطاع من الحرب الشاملة، أكثر من مرة، ومَن كتب لم يبرر للجيش الإسرائيلي الجرائم التي يرتكبها بحق المدنيين، إنما ينطلق من واقع، أنه لو كانت «حماس» قادرة على الرد وحماية القطاع قد لا تُعذل، فالحرب مفتوحة ومنذ احتلال الأرض وتشريد السكان، لكن أن تعطي المبرر وتترك الناسَ أهدافاً للطيران وآلة القتل الرهيبة، لإثبات الوجود، مقابل هدف حزبي لا وطني، فهذا هو اللعب (الجهادي). على صعيد آخر هناك من تحدث، بما يمكن وصفه بسقم العبارة، أن كتائب القسام وجيش القدس الإيراني هما القادران على لجم إسرائيل وتحرير الأرض كاملة، وذلك تعليقاً على خطابي قائد «القسام» وقائد «جيش القدس»، وما توعدا به إسرائيل من تدمير، وهي عودة إلى مقولة: رميها في البحر. نعم، من يمتلك القوة يمتلك الأرض، ولـ«القسام» و«جيش القدس» ذلك لو امتلكا تحقيق ما وعدا به، لكن ما يحصل أن مقابل صاروخ واحد تُدمر ألف دار، ولا تتوقف الحرب لأسابيع، في كل جولة من جولاتها. ناهيك عن أن الحرائق مشبوبة بالمنطقة، والشُّعوب مبتلاة بما فيها من مصائب، فأي تضامن يقدمه العراقي وهو يحترق بنار العنف في كل مكان؛ والناس عيونها على طريق الهجرة، ففي مكان مقاومون وميليشيات وفي مكان آخر «دولة خلافة»، والكل يعبث بالدم! أي تضامن يُرجى من السُّوريين، وقد تشردوا في ديارهم وخارجها، والقتل اليومي جارياً؟ أي تضامن يُطلب من المصريين والعنف الإسلامي أخذ يتصاعد ليمنع الاستقرار بأية وسيلة من الوسائل، ولا يعبأ بحلال أو حرام. إلى ليبيا والحرب الداخلية تحرق الأخضر واليابس فيها، وهل لدى الليبي فرصة إعلان تضامن مع غَزة أو غيرها؟ هذا هو محيط غزة القريب والبعيد، مشغول بمصائبه، ويتبع مصيره إلى الموت أو أرض الملاجئ. غزة بلاد عريقة الوجود بين حواضر الدنيا، ذات تاريخ ضارب في القِدم، أخذت من كل الحضارات التي مرت عليها، وظلت متوازنة في مدنيتها، وفيةً لابنها وإمامها محمد بن إدريس الشافعي (ت 204هـ)، صاحب المذهب المعروف، من دون أن تتحول إلى كيان ديني خالص، مثلما تريد لها «حماس». ذكر غَزَّة زكريا القزويني (ت 682هـ) بالمدينة الطيبة «بين الشام ومصر على طرف رمال مصر» (آثار البلاد وأخبار العباد)، حيث الأنفاق بينهما في الوقت الحالي، وهي مصدر النزاع. إلا أن القزويني وكذلك ياقوت الحموي (ت 626 هـ) لم يذكراها إلا ليفيضا بأخبار وليدها الإمام الذي هجرها طفلا إلى الحجاز، وحن إليها قائلا: «وإني لمشتاق إلى أرض غَزَّةٍ/ وإن خانني بعد التفرق كتماني/ سقى الله أرضاً لو ظفرت بتربها/ كحلت به من شدةِ الشوق أجفاني» (ديوان الشافعي). ذَكَرها أيضاً من البلدانيين محمد المقدسي البشاري (ت 380هـ) قائلا: «غَزَّة كبيرة على جادة مصر، وطرف البادية، وقرب البحر، بها جامع حَسن، وفيها أثر عمر بن الخطاب..» (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم). وآخر البلدانيين القدماء زارها ابن بطوطة (ت 779هـ) ووجدها: «متسعة الأقطار، كثيرة العمارة، حَسنة الأسواق، بها المساجد العديدة والأسوار عليها، وكان بها مسجد جامع حَسن، والمسجد الذي تُقام الآن به الجمعة..». ثم عاد ابن بطوطة إليها فوجدها شبه قفراء، قد عاث بها الوباء، وقضى على معظم سكانها بمعدل ألف ومئة في اليوم الواحد (الرحلة)، مثلما نراها في هذه اللحظات عارية إلا من الدماء والأشلاء. قيل مات فيها أبو الهواشم هاشم بن عبد مناف (معجم البلدان)، ولأبي نواس (ت 198هـ): «طوالبَ بالركبان غزَّة هاشمٍ/ وبالفرما مِن حاجِهنَّ شُقورُ/ ولما أتت فسطاطَ مصرٍ أجارها/على ركبِها ألا تُذال مجيرُ»(الديوان). فمن المفجع أن يحلُّ بها هذا الخراب، وكأنه سيأتي على إزالتها من الوجود، وتبقى دماء الناس أقدس من أي حجر مهما عظم شأنه وعلا. تضامنت الدُّول مع غزة ودفعت ما قدرت عليه من مساعدات، لكن المشكلة أن العاذلين أو اللائمين لقلة التضامن يريدونه تضامناً مع الحركة الإسلامية، و«حماس» الطرف الرئيسي فيها، بينما الدول والشعوب صارت أهدافاً للإسلاميين، في كل مكان. إنه أمر شديد الالتباس، ويدفع الثمن الشعب الفلسطيني، وعلى وجه الخصوص قطاع غَزة، فالحركة الإسلامية فيها تريد مد الأذرع إلى خارجها عبر التنظيم الدولي، وفي الوقت نفسه تلوم غيرها لقلة التضامن، ليس من الدول إنما الشعوب، مع أن هذا التضامن مهما بلغ لا ينهي المأساة ويستر التورط فيها. إن الحركة الإسلاميَّة، وهذا لا يبرر بطبيعة الحال جرائم الجيش الإسرائيلي، تفكر بحزبيتها قبل وطنيتها، فما حدث بقطاع غزة منذ انقلاب «حماس» والتفرد بأمرها والأسلمة الجارية على قدم وساق، حتى ضحت «حماس» بعلاقتها مع الشَّعب المصري لواجب حزبي، يتعلق بوضع «الإخوان» بمصر. في حين كان عليها الانتباه إلى قضيتها الوطنية أكثر من مصلحتها الإخوانية. إذا بقي الحال كما هو عليه فستظل غزة ممراً للغزاة مثلما كانت للإسكندر المقدوني ولسمعان المكابي في قرون ما قبل الميلاد (قاموس الكتاب المقدس)، وقُصْدت بالخراب في العديد من الأزمنة، وها هي تُهدَم على أهلها. فآلة الدمار قد اختلفت، كانت حجارة منجنيق فغدت قنابل طائرات، تُنزل حممها على الرياض والمدارس. نعم، من حق العاذلين على قلة التضامن مع غزة ولو بالكلام، ومع قضية تحملنا باسمها أعتى الديكتاتوريات، وباسمها تشكلت أحزاب خطفت الدين، والأنساب أيضاً، لكن على العاذلين معرفةَ الأسباب!