ليست الوحشية الإسرائيلية أمراً جديداً علينا أو على العالم، فتاريخ إسرائيل منذ قيامها حافل بارتكاب المذابح وانتهاك كل القوانين الدولية، لكنها كانت تفلت دائماً من العقاب لأسباب نعرفها ولا داعي لتكرارها هنا. ومن ثم، فقد كان الإجرام الإسرائيلي مُتوقعاً منذ بدأت التحرشات الإسرائيلية عقب مقتل المستوطنين الثلاثة، وكان سقوط آلاف القتلى والمصابين والتدمير الكامل لغزة أمراً مسلماً به، يراه رأي العين من يمتلك أدنى معرفة بمجريات الأمور في المنطقة. يطغى صخب المعارك وهدير القصف وصراخ الثكالى حيناً على الأسئلة المنطقية، وهناك من يحاول منع توجيه هذه الأسئلة أصلاً، ويستبقُها بتوجيه الاتهامات وإطلاق قنابل الدخان الزائفة، لكنها تفرض نفسها على من يعنيهم حقاً مستقبل القضية الفلسطينية وحياة آلاف الفلسطينيين الذين يدفعون ثمناً باهظاً نتيجة قرارات سياسية قد تخطئ وقد تصيب. إن التبعات الفادحة المترتبة على هذه القرارات تجعل تقييمها أمراً ملحاً، وأولى الناس بذلك هم من يتخذون هذه القرارات، فهم مُلزمون أخلاقياً وإنسانياً وسياسياً بوضع هذه القرارات موضع المراجعة وقياس عوائدها وكلفتها. تقتضي الأمانة الوقوف على أسئلة عدة، مثل: هل يوجد من بين من أداروا الأمور في غزة منذ أعوام من راجع نفسه يوماً؟ وهل يكون قادة «حماس» من الشجاعة بحيث يطرحون على أنفسهم السؤال الذي يجب أن يطرحه أي قائد شريف على ذاته قبل أن يطرحه عليه الآخرون: هل أديتُ واجبي حقاً في الحفاظ على حياة الأبرياء الذين ائتمنوني على قيادتهم؟ تبهرنا شجاعة الفلسطينيين الذين خاضوا معركتهم بإباء وشرف، وعضوا على جراحهم وآلامهم بكبرياء عهدناه فيهم، فدفن آباءٌ أبناءَهم حابسي دموعهم، وشيعت أمهات أبناءهن إلى القبور بالزغاريد والورود. وهذه التضحيات التي تعجز الكلمات عن وصفها يجب ألا تذهب سدى، فالأمهات لا يربين أبناءهن للموت الذي يكرر نفسه بعبثية موجعة، ويجب أن يعرفن أن من قرر خوض المعركة قد استعد لها وحدد أهدافاً واضحة يُفترض أن تكون هي نفسها أهداف شعبه، لأنهم وقود هذه الحرب، وضحاياها الذين يدفعون ثمناً باهظاً من أرواحهم وأمنهم ومستقبلهم. قائمة الأسئلة طويلة، ويجب أن تبدأ من الأصل الذي تتفرع عنه تساؤلات أخرى تترتب عليه: «الجماعة» أم الوطن؟ بصيغة أخرى: «حماس» أم فلسطين؟ في الإجابة على هذا السؤال إيضاح لما يبدو غامضاً لدى كثيرين، وتفسر هذه الإجابة كثيراً من الإبهام الذي تتسم به سياسات «حماس» منذ وقت طويل. ويمكن لأي متابع أن يقيم سياسات «حماس» وقراراتها على ضوء هذا السؤال، وما إذا كانت تنظر إلى مصلحة فلسطين ككل، أم أنها تراعي مصلحة «الجماعة» والتمكين لها على حساب المصلحة الوطنية؟ هل تعتبر «حماس» نفسها مجرد منظمة تسعى إلى هدف أكبر هو قيام الدولة التي يحلم بها الفلسطينيون، أم أنها ترى وجودها وبقاءها الهدف الأسمى والغاية العظمي التي تصب كل القرارات والسياسات في سبيل تحقيقها؟ في هذا الإطار يمكن أن ننظر إلى القرار بشأن الحرب الأخيرة: هل كان مصلحة فلسطينية، أم أنه يهدف إلى تثبيت سيطرة الجماعة في المنطقة الواقعة تحت سلطتها؟ هل تعاملت الجماعة مع نُذر الحرب الوشيكة على أنها شأن وطني يجب أن تنسق بشأنه مع السلطة الفلسطينية، لاسيما أن مصالحة كانت قد تبلورت في ذلك الوقت، أم أنها تصرفت بصورة منفردة، بل ربما قصدت إلى إحراج السلطة الفلسطينية والضغط عليها؟ وربما يفسر ذلك الصورة التي ظهرت عليها الحرب، بحيث صارت القضية قضية «غزة» لا فلسطين. الجماعة أم الوطن؟ سنسأل هذا السؤال مرة ثانية فيما يتعلق بهجوم البعض على دول عربية ساندت الحق الفلسطيني وقدمت إلى الفلسطينيين كل أشكال المساندة والدعم طيلة تاريخهم. فقد انطلقت حملة مسمومة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة ومصر والمملكة العربية السعودية، تكررت فيها اتهامات أقلها «الخيانة» والتنسيق مع إسرائيل والمشاركة في قتل الفلسطينيين! ومثل هذه الاتهامات لا تستحق الوقوف عندها أو الرد عليها؛ لأن من أطلقها هو أعلم الناس بكذبها والغاية منها. لم تنظر «حماس» إلى المصلحة الوطنية الفلسطينية، بل تعاملت باعتبارها فرعاً من جماعة «الإخوان المسلمين»، وأعلت مصلحة الجماعة على مصلحة الوطن. وكان من الطبيعي أن يحاول بعض المتعلقين بأستار عباءة «الإخوان» الهجوم على الإمارات ومصر والسعودية، وهو هجوم بالوكالة لمصلحة جماعة «الإخوان المسلمين»، بعد سقوطها المدوي، من دون مراعاة للمصالح الوطنية الفلسطينية. إن دور الإمارات ومصر والسعودية محوري إقليمياً ودولياً في دعم الحق الفلسطيني، ومحاولة أي طرف دق إسفين بين الفلسطينيين وهذه الدول الثلاث لا يخدم القضية الفلسطينية ويحرم الفلسطينيين من أحد مصادر قوتهم، ويتركهم فريسة سهلة للإسرائيليين المدعومين بقوى دولية عظمى مساندة لهم على طول الخط. الجماعة أم الوطن؟ يبدو ذلك أيضاً في تحالفات «حماس» خلال هذه الحرب، ومحاولتها جعل أوراق اللعبة كلها في يد تركيا وقطر، وتلميع البلدين وتعظيم دورهما وتضخيمه في افتئات على الواقع الاستراتيجي للمنطقة. والغريب أن قطر وتركيا هما الدولتان اللتان تحتفظان بأوثق العلاقات مع إسرائيل من بين دول المنطقة، ويصل الأمر بين إسرائيل وتركيا إلى حد التحالف الاستراتيجي، ولم تتوقف الأنشطة العسكرية المشتركة بينهما يوماً رغم الأزمات المصطنعة وقنابل الدخان الزائفة التي يطلقها أردوغان لكسب تأييد السذج والمغفلين. وكانت «حماس» تعلم تمام العلم أن قطر وتركيا لن تُقدما أو تُؤخرا، وأن الحل يجب أن يكون في إطار المبادرة المصرية التي أيدتها الإمارات والسعودية، لكنها تعامت عن هذه الحقيقة، وأجلت ما كان يجب القيام به، والغريب أنها قبلت الآن بوقف إطلاق النار! أما كان حرياً بـ«حماس» ومن يدعمها أن يحقنوا دماء الفلسطينيين الأبرياء الذين قضوا نتيجة خطوات غير محسوبة قامت بها جماعة ما فتئت تضر بمصلحة القضية الفلسطينية؟! اليوم أو غداً سيأتي من يشجع «حماس» على غيّها، ويقول إن غزة انتصرت، وسيغض هؤلاء الطرف عن الدمار والخراب الذي لحق بغزة، وسيتعامون عن النساء الثكالى والأطفال اليتامى والأسر المشردة. يمكن لهؤلاء أن يقولوا ما يحلو لهم؛ لأنهم لا يدفعون ثمن كلامهم هذا، ولا ثمن المغامرات غير المحسوبة. وحدهم أهلنا الطيبون في غزة سيشعرون بوطأة المعاناة، وسيرون أنهم كانوا ضحية مخطط رسمته قوى إقليمية ونفذته أطراف فلسطينية في إطار ارتباطها العابر للوطن.