قبل قرون مديدة قرأ أحدهم كتاب «إحياء علوم الدين» للإمام الغزالي فعاد إلى مؤلفه قائلاً: لقد وجدت فيه 1000 خطأ، قال الغزالي: سبحان الله ألم تجد فيه صواباً واحداً! وبعد قرون من هذه القراءة الانتقائية الظالمة ما زال البعض أيضاً يقع في التركيز على النقطة السوداء في الصفحة البيضاء. وهو أمر يخالف الطبيعة الإنسانية، فإذا كان العلم قد استفاد طبياً من سموم الأفاعي القاتلة في الأصل ألا يمكن التعامل مع الإنسان المجرد من كل المؤثرات الدينية والعرقية والعنصرية وفق هذا المنطق على أقل تقدير. إذا لم يستطع البعض الأخذ بالقاعدة الربانية «إن الحسنات يذهبن السيئات...» فمن الإنصاف أيضاً ذكر النقطة البيضاء في الصفحة السوداء. فالبعض الذي يمارس هواية البحث عن الأخطاء ولو في بطن الصواب تصعب عليه ممارسة سلوك الإنصاف مع نفسه فضلاً عن خصمه أو المختلفين معه في الرأي. وقد يلقي أحدهم محاضرة طويلة ومملة عن آداب الاختلاف وفوائده وأهميته في إثراء الفكر البشري، ولكن بمجرد طرح الأسئلة على المحاضر بما لا يعجبه من القول قد تجده يزمجر ويعترض ويرفض هذا الاختلاف العملي جملة وتفصيلاً، وإن طبقت معايير المحاضر في فن الاختلاف بحذافيرها، فقد تصدم بالرد الحاسم من قبله وعدم تقبله أي نقد لما عرضه على الجمهور. فإنصاف الآخرين سلوك نفسي وتدريب داخلي قبل أن يكون طرحاً فكرياً مصمتاً، وهذا السلوك الإيجابي عندما يكون الند أو الخصم أو الآخر المختلف سلبياً معك إلى أقصى درجات التطرف الفكري، فمن يملك كظم الغيظ وخلق الأعذار تلو الأخرى حتى يتم بلع طعم الاختلاف دون الوقوع في الآثار الجانبية السيئة على الصحة المعرفية العامة للإنسان. إذا لم يستطع البعض أن يفتح أبواباً للنقاش في الاختلافات، فليس أقل من أن يفتح نوافذ للتوافق حول نقاط الاختلاف. ومن الإنصاف أن نعترف بمشروعية الاختلاف، وفي الأثر «اختلاف أمتي رحمة»، فلمَ يضيق البعض بهذه الرحمة المهداة، ولمَ يجعلها بعض آخر نقمة وغمة في صده ورده. إن تعكير البعض لأجواء الاختلاف الطبيعي بين المتحاورين، سلوك لا ينم عن مهارة عقلية، بل هو علة نفسية وعقدة يصر عليها الرافض لمبدأ الاختلاف في الحوار لغرض الهدم، بدل المساهمة في بناء فكر تراكمي من أجل الإثراء المعرفي، فبغير ذلك تتجمد الأفكار في قوالب تفرض قيودها على سير الحوار الآمن من الخروج عن النص بداعي المناجزة وليس المحاورة العلمية أو حتى الموضوعية. إن البعض بحاجة إلى تدريب على عملية التلاقح الفكري في تناول أصعب القضايا بأرفع الوسائل المتاحة، حتى لا نكون كمن ذهب إلى أميركا يوماً فلم يرَ فيها إلا حياة اللهو واللعب وعلب الليل الفارغة، ولم يرَ في النهار إلا ما يكمل به تلك الرؤية الظالمة، فساعة اللهو يجب أن لا تلغي ساعات الجد والإتقان في حياة الأمم الراقية. فالحوار المنصف لا ينبغي أن يذهب حصراً إلى هدم الملاهي، بل إلى تفحص الوجه الآخر للحضارة الزاهية والتركيز عليها أكثر وأكثر بالعبور على ما لا يعجب البعض مرور الكرام دون التوقف عنده وكأنه هو المحك، بل الذهاب أبعد من ذلك إلى المحرك الفعلي لعجلة الحضارة في أي مجتمع لا ينقصه ذلك البعد الإيجابي في فن البناء الحقيقي. ألا يقال في تراثنا إن الحق ما شهد به الأعداء وليس بالضرورة الأصدقاء لأن شهادتهم مطعونة كأهل الشأن ذاتهم، فمن الإنصاف أن نشهد نحن لأعدائنا أو خصومنا بالحق الذي عندهم إذا كان من الإنصاف أيضاً أن للحق أوجهاً عدة قد نملك نحن بعضها والآخرون يكملون مشوار بقية الأوجه.