منذ سقوط نظام القذافي في ليبيا بفعل ثورة 17 فبراير 2011 وذلك البلد يشهد حالة من التجاذب السياسي والتدافع الاجتماعي جعلت التحول من واقع الثورة إلى واقع الدولة أمراً بالغ الصعوبة، بسبب استمرار بعض الجماعات المسلحة التي انخرطت في القتال خلال أشهر الثورة المريرة على النظام السابق متمسكة بأسلحتها وتشكيلاتها وقوتها الخشنة، رافضة الانصياع في أحيان كثيرة لسلطة الدولة والقانون. ومع مرور الزمن اكتسى بعض تلك التشكيلات المسلحة طابعاً قبلياً وجهوياً سلبياً، ودخلت على خط الاصطفاف أيضاً بعض الجماعات المتشددة والقوى المنفلتة، فيما ظلت قوة الحكومة المركزية تتآكل، وجهود إعادة بناء أسس الدولة تتراجع، حتى وصل الأمر إلى المشهد الراهن الذي تجتاح فيه مناطق واسعة من البلاد أعمالُ العنف الطليق والصراع المكشوف بين رفاق سلاح الثورة بالأمس القريب من ثوار 17 فبراير أنفسهم، في حين تجهد الطبقة السياسية المشتتة حزبياً لإخراج البلاد من نفق العنف وتجنيبها خطر الارتماء في أتون حرب أهلية، لا تبقي ولا تذر. ومع استمرار الاستقطاب السياسي والاحتقان الاجتماعي والتعثر الاقتصادي جاء أيضاً الانفلات الأمني الأخير ليثير من جديد سؤال اللحظة الآن: كيف يمكن إعادة بناء الدولة في ليبيا على أسس جديدة؟ وهو سؤال قد يخفي وراءه سؤالاً آخر أكثر تعقيداً بكثير: هل ثمة تعارض أو تناقض، أصلاً، بين الثورة والدولة في الحالة الليبية؟ لعل الإجابة على هذين السؤالين تلخص محتوى كتاب أصدره الأكاديمي التونسي منصف وناس منذ أسابيع بعنوان: «الثورة وإعادة البناء في ليبيا.. الملك والثائر»، حيث يستعرض فيه من منظور التحليل الاجتماعي السياسي مختلف أبعاد المشهد الليبي في الراهن، مستنداً في ذلك على معرفة عميقة بالتكوين التاريخي والاجتماعي والتوازنات السياسية والقبلية في ذلك البلد. ويكتسي هذا الكتاب أهمية كبيرة أيضاً لكون مؤلفه، وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي بالجامعة التونسية، يعتبر أحد أبرز المتخصصين في الدراسات المغاربية، والليبية والتونسية بصفة خاصة، وقد سبق له أن أصدر كتاباً آخر ذائع الصيت عن ليبيا عنوانه: «العسكريون والنخبة والحداثة في ليبيا المعاصرة». وبين دفتي كتابه الواقع في 206 صفحات يستعرض المؤلف عوائق بناء الدولة في ليبيا الآن منطلقاً في ذلك من تتبع الخلفيات التاريخية، وتراكم غياب عمل المؤسسات في العهد السابق، هذا فضلاً عن خصوصيات البنية السوسيولوجية الليبية القائمة على نظام اجتماعي قبلي مترسخ الجذور. وفي واقع موضوعي صعب وبالغ التعقيد كهذا يغدو العمل على بناء دعائم دولة مؤسسية جديدة ونظام ديمقراطي مستقر مهمة بالغة الصعوبة، بكل المقاييس، وخريطة الطريق الوحيدة الممكنة إلى ذلك هي تلك التي تنطلق من التعامل مع التحديات الراهنة ببُعد نظر ورهان على المستقبل، بعيداً عن الارتهان للماضي، وتصفية حساباته الصغيرة، وتبني سياسات عزل سياسي من شأنها استبعاد وحرمان مكون أو طيف اجتماعي من سكان البلاد من حقه في الشراكة في الوطن، والعمل تحت سقف مشروع سياسي جامع لكل مفردات ليبيا الجديدة المنشودة. ويرى الكاتب أن تبني سياسات استبعاد للخصوم والمنافسين وحرمانهم من حقهم في الاندماج في النسيج السياسي والإداري وتقرير مصير بلادهم هو في حد ذاته وصفة للفشل ولاستدامة لأحوال عدم الاستقرار، وخاصة أن مشكلات ليبيا اليوم لا تقتصر فقط على وجود المليشيات المسلحة والجماعات المنفلتة، بل إن هنالك أيضاً مخزوناً مثيراً للقلق من الضغائن والحساسيات القديمة والجديدة بين القبائل، والتنافسات العميقة بين المناطق والجهات، زادتها تراكمات بعض وقائع ومخاضات الحرب الطاحنة خلال الصراع الدامي لإسقاط النظام السابق. ومن هنا فإن أول هدف ينبغي تركيز الجهود لتحقيقه هو المصالحة بين كافة أطياف وأطراف المشهد الليبي، واستبعاد أية قوانين عزل واستبعاد من شأنها حرمان البلاد من بعض مكونات نسيجها السكاني، والعمل على إيجاد أهداف ومعان مشتركة جامعة قادرة على استقطاب كافة الليبيين. كما تقتضي إعادة بناء الدولة أيضاً العمل لترسيخ مفاهيم الديمقراطية والتعددية وقبول الآخر، وخلق ثقافة جديدة من الانفتاح، وطي صفحة ماضٍ مشترك سلبي ومؤلم، والتخفيف من أعباء الذاكرة بشكل عام، وأن يعمل كل طرف من أطراف اللعبة السياسية الراهنة كفاعل إيجابي بمفهوم ماكس فيبر. ومن دون رؤية كهذه، ذات أفق متسع وروح وطنية متسامية على الضغائن والأحقاد، وبعيدة عن الأنانية ومحاولة الانفراد بكل شيء عن الشركاء في الوطن، ستبقى ليبيا في حالة عدم استقرار عارمة لتصبح دولة فاشلة، يتهدد الاحتراب الداخلي مستقبلها، على نحو يمكن أن تتفاعل وتتمدد تداعياته السلبية من فوضى وعنف عارمين إلى دول الجوار القريب، وربما البعيد أيضاً. حسن ولد المختار الكتاب: الثورة وإعادة البناء في ليبيا المؤلف: منصف وناس الناشر: هارمتان تاريخ النشر: 2014