«حماس» فوتت الفرصة على غزة
في شتاء عام 2005، دعاني زياد أبو عَمْرو، عضو المجلس التشريعي الفلسطيني، لإلقاء كلمة في مدينة غزة. وعندما دخلت المبنى للمشاركة في الاجتماع، رأيت محمد الزهّار، وهو أحد مؤسسي حركة «حماس». وقبل أن تتاح لي فرصة الكلام، بادرني زياد بالقول: «لقد قررنا أن ندعو المعارضة للاستماع إليك. وأعتقد أنه من المهم أن يفعلوا ذلك». ولم أتوقع أن أرى كبار قادة «حماس» هناك، إلا أن وجودهم لم يبدّل شيئاً من المهمة التي جئت من أجلها. وكانت إسرائيل قد حددت موعداً للانسحاب من قطاع غزة خلال الأشهر القليلة المقبلة، وقلت في نفسي إنها الفرصة السانحة أمام الفلسطينيين وعليهم اغتنامها. وقلت لمن استمعوا لكلمتي، وعددهم نحو 200 غزّي، إن الوقت حان لتحقيق الطموحات الوطنية للشعب الفلسطيني.
ولو تمكن الغزيون من اغتنام الانسحاب الإسرائيلي لتحسين الأوضاع في غزة بالطرق السلمية، لرأى المجتمع الدولي والإسرائيليون بأن ما تحقق هناك يمكن تطبيقه في الضفة الغربية. وتساءلت بعد ذلك بلغة منمّقة: عندما يحول الفلسطينيون غزة إلى ساحة للهجوم على إسرائيل، مَن الذي يمكنه الاقتناع بانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وإقامة الدولة الفلسطينية؟ وقلت إن معظم تاريخ الفلسطينيين كان يصنعه لهم غيرهم، لكنهم هذه المرة أصبحوا يمتلكون القدرة اللازمة لصنع تاريخهم بأنفسهم. وإذا ما تمسكوا بالخيار الخاطئ، فلن يكون من حقهم لوم العرب ولا الأوروبيين والأميركيين والإسرائيليين. وفيما لم يتردد المشاركون في توجيه النقد اللاذع للدور الأميركي في عملية السلام، فما من أحد عبّر عن اعتراضه على هذه الرسالة التي نقلتها لهم.
لكن لسوء الحظ، نعلم حقيقة الخط الذي اختارت «حماس» السير فيه. ورغم أن إسرائيل كانت منشغلة باستكمال عملية إجلاء مستوطنيها وسحب جنودها من غزة، قامت «حماس» بتفجير حافلة ركاب مدنية في إسرائيل. وبعد ذلك، ومنذ أواخر عام 2005 وحتى بدايات عام 2006، شنّت الحركة عدة هجمات على نقاط العبور المهمة حتى تسمح بمرور السكان والبضائع من وإلى غزة. وفيما يتعلق بـ«حماس»، فقد كان من المهم جداً مواصلة «المقاومة» بدلا من إتاحة الفرصة أمام الغزيين لاختبار مشاعرهم الحقيقية حول الحرية التي أصبحوا يتمتعون بها، أو لتقديم الدليل للإسرائيليين بأن انسحابهم من القطاع أتى ثماره. وكان البعض يزعم بأن إسرائيل انسحبت بالفعل إلا أنها فرضت حصاراً خانقاً على غزة. وفي الحقيقة يمكن القول إن «حماس» هي التي صنعت هذا الطوق حول نفسها. والكل يعلم بأن الحصار القاسي الذي فرضته إسرائيل على غزة لم يأتِ إلا بعد مواصلة «حماس» لهجماتها.
ومن الواضح تماماً أن الحصار المفروض على غزة أصاب السكان بأفدح الأضرار، إلا أن ذلك لم يمنع «حماس» من بناء الأنفاق وغرف القيادة والخنادق لقادتها ومقاتليها وصواريخها. وأُقيمت تلك الأنفاق تحت البيوت والمدارس والمستشفيات والمساجد، وهيأت لها فرصة حرية الحركة. ووفقاً لما يقوله الجيش الإسرائيلي، فإن نحو 600 ألف طن من مادة الإسمنت قد استخدمت في بناء تلك الأنفاق. وبعض هذه الكمية تم تهريبها عبر الأنفاق التي تخترق الحدود مع مصر وبعضها الآخر جاء من مخصصات غزة من مواد البناء التي سمحت إسرائيل بعبورها.
وفي ذلك الوقت، تحاورت مع القادة وضباط الأمن الإسرائيليين وقلت لهم بأن من واجبهم السماح بعبور كميات أكبر من مواد البناء ليتمكن أهل غزة من بناء البيوت والمدارس والبنى التحتية الأساسية. واعترضوا على اقتراحي بشدة بدعوى أن «حماس» سوف تسيء استخدام تلك المواد، وسرعان ما اقتنعت كل الاقتناع بأنهم كانوا على حق. والحق أن ترقية مستوى المعيشة في غزة وضمان مستقبل شعبها وحمايته، لم تكن من الأهداف التي تحارب «حماس» من أجلها.
ومنذ إنشائها وحتى الآن، لم تتوقف «حماس» عن التفكير في محاربة إسرائيل. ولم يكن اعتراض إسرائيل على إعادة التفاهم بين «حماس» والسلطة الفلسطينية هو الذي أدى إلى هذه الحرب الدامية الأخيرة. بل إن السبب يعود أصلا للعزلة السياسية التي تعانيها «حماس» والوضع المالي الصعب الذي يزداد تأزما يوماً بعد آخر. لقد أصيبت «حماس» بأضرار كبيرة بعد أن أغلقت مصر أنفاق التهريب إلى غزة، وبعد أن أوقفت إيران دعمها المادي لها بسبب معارضتها بقاء بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا. كما أن قطر أصبحت عاجزة عن إرسال الأموال إليها عبر حدود رفح التي تسيطر عليها مصر.
وقضت صفقة التفاهم بين غزة والسلطة الفلسطينية بتنازل «حماس» عن حكم غزة ومواجهة استحقاقاتها المالية هناك، لكن من دون أن تتخلى عن سلاحها. لكن السلطة الفلسطينية لم تكن راغبة في دفع رواتب منتسبي «حماس»، بما فيهم قوات الشرطة. وهكذا لم يبقَ أمام الحركة إلا حل وحيد مفاده: استخدم القوة حتى تغيّر الوقائع السياسية القائمة على الأرض.
وفي التسعينيات عندما كنت أشغل منصب المفاوض الأميركي في عملية سلام الشرق الأوسط، لاحظنا أنه كلما أحرزنا تقدماً وأوشكنا على تحقيق اختراق ما في هذا الصراع المعقد، تفاجأنا بأخبار الانتحاريين الحمساويين وهم يفجرون أنفسهم ضد أهداف إسرائيلية.
ولا شك أن الإسرائيليين سيقفون ضد أي عرض يحقق مكاسب لـ«حماس». وبعد أن نجحت إسرائيل بتدمير الأنفاق أظهرت ميلاً للتهدئة وتمديد وقف إطلاق النار، إلا أن «حماس» رفضت هذا العرض.
دينس روس
المفاوض الأميركي السابق في عملية سلام الشرق الأوسط
ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس