المقولة التي تدفع بها الحكومة الإسرائيلية من أجل تبرير قصفها للسكان المدنيين في قطاع غزة تتمثل في محاربة حركة «حماس» التي تصفها بالمنظمة الإرهابية. والواقع أن الحركة مدرجة بالفعل ضمن قائمة المنظمات الإرهابية من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وذلك بالأساس نزولاً عند الرغبة الإسرائيلية في هذا الشأن، وهو ما يسمح بإقامة خط دفاع مزدوج: ذلك أن كل من ينتقد أعمال الحكومة الإسرائيلية يعد معادياً للسامية، وكل من يندد بقصف السكان المدنيين في غزة هو من المناصرين للإرهاب. وهذا الوصم المزدوج بـ«معاداة السامية» و«مناصرة الإرهاب» يفترض أن يسكِت كل انتقاد لإسرائيل وممارساتها الحربية، بما في ذلك الانتقادات ضد قصف السكان المدنيين؛ غير أنه عند تفحص هذه المقولة وتمحيصها يتضح للمرء بسرعة مدى ضعفها وتهافتها. فاعتبار كل انتقاد سياسي للحكومة الإسرائيلية ضرباً من ضروب معاداة السامية صار حيلةً مكشوفة لم تعد تنطلي على أحد؛ ذلك أن ثمة عدداً لا بأس به من الإسرائيليين النزهاء الذين لا يمكن التشكيك في ولائهم لإسرائيل، لكنهم مع ذلك كانوا من أوائل المنتقدين للعمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة. أما في ما يتعلق بدعم الإرهاب، فلابد من التذكير هنا بأن حركة «حماس» دُعمت في البداية من قبل المخابرات الإسرائيلية بهدف التصدي لنفوذ «فتح». فقد كانت «حماس» وحزب «الليكود» متفقين على رفض عملية أوسلو، التي كان يؤيدها كل من حزب «العمل» الإسرائيلي وحركة «فتح» الفلسطينية؛ حيث كانت لدى نتنياهو و«حماس» وقتئذ نقطة التقاء مشترك. وبالتوازي مع ذلك فقد كان كل واحد منهما يلقي باللوم على الآخر. وينبغي أن نتذكر هنا سيل الشتائم والانتقادات التي كان شارون ونتنياهو و«الليكود» ينهالون بها على إسحاق رابين قبل اغتياله. ومع اندلاع الانتفاضة الثانية، كان الجيش الإسرائيلي يستهدف في رده الانتقامي البنى التحتية للسلطة الفلسطينية في كل مرة كانت تقوم فيها «حماس» بتنفيذ هجوم ضد إسرائيل، فكان يعمل على إضعاف السلطة الفلسطينية دون أن يلمس «حماس». وإضافة إلى ذلك، فإنه كان من نتائج الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب من قطاع غزة، والذي صُوِّر حينئذ على أنه لفتة سلام رائعة من جانب شارون، أن قوّى «حماس» وعزز موقفها. والحال أنه لو تم التفاوض بشأنه مع السلطة الفلسطينية، لعزز ذلك موقف أولئك الذين كانوا يرغبون في التفاوض مع إسرائيل على الجانب الفلسطيني. لكن، ولأن ذلك تم بطريقة أحادية الجانب، فإن عباس الذي كان قد انتُخب للتو لم يجن منه أي فوائد سياسية؛ وبالمقابل، استطاعت «حماس» استثماره والزعم بأن عملها العسكري هو الذي أرغم الإسرائيليين على الانسحاب من القطاع. وقتئذ كان يوسي بيلين قد حذّر من أنه إذا لم يكن ثمة انسحاب متفاوض بشأنه مع السلطة الفلسطينية، فإن «حماس» ستفوز في الانتخابات، وهو ما تحقق بالفعل في يناير 2006. وبعيد ذلك بقليل، أقيم الحصار الذي أصبح سكان غزة لاحقاً ضحايا له. ثم تسبب توالي المفاوضات العقيمة بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية لاحقاً، أو حتى غياب المفاوضات، على خلفية تواصل الاحتلال والإذلال، في إفقاد عباس الكثير من الشرعية. ولأن الأشخاص الذين كانوا يقولون إنهم يريدون التفاوض مع الإسرائيليين لم يحصلوا على شيء مقابل ذلك على الصعيد السياسي، فإن الأشخاص الذين كانوا يفضلون خيار المواجهة ازداد موقفهم قوة. والواقع أنه يمكننا هنا أن نتفهم الرغبة في محاربة الإرهاب، لكن ذلك لا ينبغي أن يمنعنا من التفكير في أسبابه أو أن يحصر تفكيرنا في نتائجه وتأثيراته. وعلى سبيل المثال، فلو حاربت بريطانيا وإسبانيا الإرهاب الإيرلندي أو الباسكي بنفس الطريقة التي تحارب بها إسرائيل «الإرهاب» الفلسطيني، فمما لا شك فيه أنهما ما كانتا ستتوصلان لاتفاق في النهاية. ثم إن الجيش البريطاني أو الإسباني لم يقم أبداً بتدمير منازل عائلات أعضاء حركة «إيتا» الباسكية الانفصالية أو «الجيش الجمهوري الإيرلندي»، ولم يضربا حصاراً حول بلاد الباسك أو إيرلندا، ولم يروحا يقصفان المدنيين على نحو منتظم. كما أنهما لم يقوما، تحت نظام الاحتلال العسكري، بإذلال السكان المدنيين من خلال علاقة هيمنة وقمع تجاههم. وهذا ما كان النائب العمالي الإسرائيلي السابق دانييل بن سايمون قد أشار إليه في العشرين من يوليو الماضي، وبكثير من التبصر، حين قال: «يجب أن نحاول تقليص الإرهاب من خلال تبني مقاربة أكثر إنسانية، واستثمار مليارات الدولارات اقتصادياً في غزة، حتى يرقى مستوى معيشة السكان هناك إلى مستوى نظرائهم في الضفة الغربية ومنحهم إمكانية العيش مثلنا». مقاربة لاشك أنها أفضل بكثير من تلك التي اقترحها جاك كيفر، رئيس الليكود العالمي، الذي يقترح على موقع europe-israel.org اقتراحاً آخر: «إذا كنا نريد وضع حد للحرب، فعلينا أن نقوم بتدمير غزة، إذ ينبغي تحويل غزة إلى أرض خراب لا تسمع فيها إلا أصوات النحيب!».