في الوقت الذي تظلل معظم أقطار العالم الإسلامي غيوم سوداء من ارتكابات العنف والإرهاب، ومن ممارسة الاستبداد السياسي والتقهقر الاجتماعي والاقتصادي، تلوح في أقصى هذا العالم بارقة أمل تغير من قتامة هذا المشهد العام. فقد جرت الانتخابات الرئاسية في إندونيسيا، الدولة الإسلامية الأكبر من حيث عدد السكان، وأسفرت الانتخابات لأول مرة في تاريخها عن انتقال ديمقراطي للسلطة. لقد أصبح للدولة رئيس جديد كان يعمل في دكان والده نجاراً، هو جوكو ويدودو، المعروف باسم جوكووي. وليست ميزة الرئيس الجديد انه ابن عائلة فقيرة، ولكن ميزته تتجلى في أنه تغلب في المعركة الرئاسية على جنرال سابق في الجيش كان صهراً لرئيس الجمهورية الجنرال سوهارتو الذي حكم البلاد بالقبضة الحديدية لمدة ستة عشر عاماً. لقد تغلب نجار ابن نجار، لا يتحدر من عائلة عسكرية أو سياسية، أو مالية كبيرة، على جنرال كان صهراً لرئيس ولجنرال سابق هو برابووا سوبيانو. ويملك هذا الجنرال عدة صحف ومؤسسات مالية. وكان رئيساً للقوات العسكرية الخاصة في عهد سوهارتو. ولذلك عندما قامت المظاهرات الشعبية ضد الرئيس السابق، كان سوبيانو صاحب القبضة الحديدية وعُهد إلى هذه القوات ورئيسها قمع تلك المظاهرات والتي كان من قادتها «جوكووي» النجار ابن النجار! ومن هنا فإن معركة الانتخابات الرئاسية الأخيرة كانت بصورة أو بأخرى استمراراً للصراع بين أنصار سوهارتو يتقدمهم الجنرال سوبيانو وخصومه يتقدمهم النجار جوكووي. وقد تمكن هذا «النجار» أولاً من الوصول إلى منصب محافظ مدينة «سولو» إحدى مدن جزيرة «جاوة». وفتح نجاحه في هذه المدينة الطريق أمامه للوصول إلى منصب محافظ مدينة جاكرتا العاصمة. ومن مبنى العاصمة وصل الآن إلى مبنى الرئاسة في الدولة. لم يطرح جوكووي فلسفة جديدة للحكم. ولكنه طرح حلولاً للمشكلات التي يعاني منها الناس: ازدحام السير الخانق، غرق الأحياء الشعبية في مياه فيضانات الأمطار، البطالة بين الشباب، والفساد المستشري في الإدارة العامة. ولم تكن طروحاته طوباوية، فقد أثبت قدرته على التعامل مع هذه القضايا بفاعلية ونجاح أولاً في مدينة «سولو» ثم في جاكرتا. ولذلك صدقه الناس والتفوا من حوله ورفعوه إلى سدة الرئاسة. وليست إندونيسيا دولة عادية من دول العالم الإسلامي. إنها تتألف من أكثر من 13500 جزيرة وتمتد لمسافة 3200 ميل. وهذا الامتداد الجغرافي خصها بثلاثة توقيتات زمنية. وقد بلغ عدد مراكز الاقتراع فيها 500 ألف مركز. ومع ذلك جرت الانتخابات في يوم واحد. ثم إن إندونيسيا متعددة الأعراق والأجناس. وعلى رغم أن المسلمين يشكلون الأكثرية المطلقة، أكثر من 80 في المئة، فإن فيها مسيحيين من كنائس كاثوليكية وإنجيلية مختلفة. وفيها بوذيون وهندوس. والتنظيمات الإسلامية فيها هي الأكبر في كل العالم الإسلامي. لقد تولى رئاسة إندونيسيا ستة رؤساء حتى الآن، بينهم ثلاثة من جنرالات الجيش، هم سوكارنو، وسوهارتو، وسوسيلو بامبانغ. وهذه هي المرة الأولى التي تنتقل فيها السلطة بصورة ديمقراطية من يد عسكري إلى يد مدني من دون مشاكل واضطرابات. وقد حدث مثل هذا الانتقال في بورما في عام 1990 إلا أنه لم يؤد إلى الاستقرار. فالعسكر هناك لا يزالون متعطشين للسلطة ولا يزالون يعملون على إعادة انتزاعها من جديد. وحدث في تايلاند. والمشهد التايلاندي الانقسامي أبعد ما يكون عن الاستقرار. والمرجع الوحيد الذي يحظى بثقة كل القوى العسكرية والمدنية المتصارعة هناك هو الملك. إلا أن الملك لا يملك سلطة تخوله حتى الفصل بين هذه القوى. ومن هنا أهمية تجربة الانتقال الديمقراطي في إندونيسيا. فالرئيس السابق الجنرال سوسيلو بامبانغ لم يكتف بعدم الترشح لولاية رئاسية جديدة، ولكنه فوق ذلك، نأى بنفسه أيضاً عن المعركة الانتخابية التي جرت بين النجار جوكووي والجنرال سوبيانو. غير أن أهمية نتائج الانتخابات الرئاسية لا تنحصر في المرشح الفائز ولا في المرشح الخاسر. ولكن أهميتها تتعلق بمواقف كل منهما من صيغة التعدد الديني والعنصري التي تعرضت في السنوات الأخيرة إلى امتحانات قاسية، خاصة بين المسلمين والمسيحيين. حتى أن ولاية آتشيه (التي ضربها التسونامي منذ سنوات) قررت فرض تطبيق الشريعة على الأقلية المسيحية من سكان الولاية. وقد أعاد هذا القرار إلى الأذهان قراراً مماثلاً اتخذته حكومة السودان وكان من نتائجه تسريع عملية انفصال الجنوب عن الشمال. فقد وظف القرار لتبرير التدخلات الدولية (الأوروبية والأميركية) تحت شعار حماية حقوق الأقليات الدينية. فدفع السودان ثمن ذلك الانقسام إلى دولتين، دون أن يتمكن أيضاً من تطبيق الشريعة في الشمال حتى الآن! لقد عرف عن جوكووي الرئيس الجديد أنه رجل متسامح ومنفتح. وقد ترجم هذه السياسة في مدينتي سولو وجاكرتا. وكان موضع ثقة واحترام كل الجماعات الدينية المختلفة. ولذلك اتهمه منافسوه من أنصار الجنرال سوبيانو بأنه قد اعتنق المسيحية سراً! ولكن جوكووي رد عملياً بالتوجه إلى مكة المكرمة لأداء العمرة فور انتهاء المعركة الانتخابية، وحتى قبل انتظار صدور نتائجها. ولكن الرئيس الجديد رغم كل ما يعرف عنه من نظافة كف، واعتدال وديمقراطية، إلا أنه لا يملك مشروعاً سياسياً للداخل، ولا رؤية للسياسة الخارجية.. وهذه نقطة ضعف يمكن أن تشكل مدخلاً للعديد من المشاكل والاضطرابات فيما بعد. إن نجاح محافظ مدينة ليس مقياساً لنجاحه رئيساً للدولة. فللمدينة مشاكلها المحدودة. أما الدولة فلها أولويات أخرى مختلفة تماماً، وأشد تعقيداً. ومن المهم مكافحة الفساد، ومعالجة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تعاني منها إندونيسيا كالبطالة والصراعات الطائفية، ولكن الأهم هو أن يكون رئيس الدولة صاحب رؤية تتمثل في برنامج عمل سياسي للتعامل مع العالم، وخاصة مع الدول المجاورة لبلاده. فمع تمدد المارد الصيني في شرق آسيا، فإن الأقلية الصينية في إندونيسيا التي تمسك بمفاتيح الاقتصاد الوطني، أصبحت مؤهلة للاستقواء بهذا التمدد.. والتكامل معه. وسوف يجد الرئيس جوكووي نفسه مضطراً لاتخاذ موقف من قضية صراع بكين مع دول بحر الصين (اليابان وكوريا وفيتنام وماليزيا والفلبين وتايوان) حول الثروة النفطية التي يعتقد بوجودها في الجرف القاري لمجموعة الجزر الصخرية -غير المأهولة- الموجودة في هذا البحر. وكذلك فإن الأقلية الهندوسية تستقوي الآن أيضاً بوصول رئيس الحزب الهندوسي المتشدد نارندرا مودي إلى رئاسة الدولة الهندية بأكثرية مطلقة وببرنامج عمل يستهدف إعلان الهندوسية ديناً للدولة. وفي الوقت ذاته لا يستطيع الرئيس الإندونيسي الجديد أن يقلل من النفوذ المتعاظم لحركات التبشير الإنجيلية التي تتدفق على الجزر الإندونيسية ليس من الولايات المتحدة وأوروبا فقط، بل حتى من كوريا الجنوبية والفلبين. ويعتمد الرئيس الإندونيسي الجديد على مؤسسة سياسية واحدة، هي حركة «ريفور ماسي»، أي الإصلاح. والإصلاح على رغم أهميته وضرورته، فهو عملية داخلية. إن إندونيسيا عضو في منظمة التعاون الإسلامي ومع أنها أكبر دولة إسلامية فإنها لم تقم بالدور الذي يناسب هذا الحجم. ويخشى أن يزداد تقلص دورها الإسلامي في عهدها الجديد إذا ما ركّز الرئيس جوكووي كل اهتماماته على الشؤون الداخلية. ولكن من يدري، فالنجار السابق الذي يبلغ من العمر 53 عاماً، قد ينجح في إدارة الدولة الإسلامية الكبرى كما نجح في إدارة العاصمة جاكرتا التي تضم وحدها من السكان ما يزيد على عدد سكان عشر دول إسلامية أخرى!