ينشغل العالم الآن، أو قل تشغله «ميديا» العولمة بالتحركات الإرهابية هنا وهنالك، وخاصة في العالم العربي وأفريقيا. والغريب أنه رغم ترديدنا القول عن «هشاشة» المجتمعات الأفريقية، ومن ثم قابليتها لمظاهر تدميرية لوحدتها الاجتماعية مثل ظاهرة الإرهاب، فإن الملاحظة تأتي قوية، عن سرعة التدمير الجارية – عبر نزعات طائفية ودينية ضيقة وتفتيتية - تنتشر في العالم العربي بأكثر منها في العالم الأفريقي تقريباً. وحتى الاستثناء بدمار الصومال، فإنه يأتي محسوباً على العالم العربي في النهاية ومسؤوليته عنه كبيرة! لكن هذا الانشغال العالمي نفسه، مازال يركز على عنصر جزئي لا يمكنه تفسير الظاهرة، فالحديث دائماً عن «مجموعات إرهابية» أقرب إلى تمثيل «الانحراف الاجتماعي» في هذا المجتمع أو ذاك، وأصبحت في آخر الطبعات مقترنة برسائلها الطائفية الدينية، كما نرى في العراق، أو سوريا، ثم بات يمتد إلى نيجيريا وأفريقيا الوسطى...الخ. وقد كانت الرسالة إلى وقت قريب، حول التخلص من «نظام ما» لمجرد نقص الديمقراطية! فهو المصري المستبد تارة، أو السوري البغيض، أو العراقي المنحرف إيرانياً…إلخ. وما أن يتحقق هدف التدمير السياسي – حيث لا مطلب دوليا حقيقيا حول الديمقراطية – حتى ينتقل المطلب إلى التدمير الاجتماعي والثقافي الذي يتجاوز السياسة! قضيتي في هذا المقال، تتمحور حول السياسات الثقافية، التي أدت وتؤدي إلى تجاهل علاقة «الثقافي» بالمجتمعي، والسياسة الديمقراطية في الوقت نفسه، كما تؤدي إلى العنصر الآخر الذي يعنيني هنا، وهو عنصر مفهوم المواطن للسياسة عموماً، وما يسمى محلياً بالسياسة الخارجية أو الدولية لمجتمع ما. وفي العالم الثالث، أو بلدان الجنوب عامة – ساد لفترة تصور العالم الخارجي كقوى استعمارية كابحة للتفكير في الذات الوطنية بطبيعتها، أو قوى دولية جديدة، غرباً وشرقاً – هي أيضاً ومن دون تمييز، ذات طبيعة عدوانية، ومن هنا ارتبط التفكير المحلي، بموضوعات «الهوية» والثقافة الوطنية، ولكننا كسبنا من ذلك في فترة الحرب الباردة نفسها – تبلور الحديث عن تنوع الثقافات والسياسات الثقافية، ودور المثقفين.. وإن كان آخرون حاولوا تحريف ذلك أحياناً بالحديث عن الحوار الحضارى في إطار تنسيق العلاقة مع «الغرب» وحده تقريباً. وقد حاولت بعض «الاستراتيجيات الثقافية» الهروب من ذلك بشكل أو بآخر، مثل المحاولة التي راح ضحيتها «مختار مبو» في اليونيسكو، أو محاولة «محيي الدين صابر» على رأس المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الثمانينيات والتسعينيات.. لكن هذه أيضاً واجهتها قوة الاستراتيجيات الاقتصادية، والاجتماعية، في أطر دولية وإقليمية أحدها اطار الجامعة العربية، بعيداً عن التنسيق المطلوب مع الخطط الثقافية. لكن على أية حال، سادت في النهاية أجواء وتأثيرات الثقافات الوطنية، أفريقياً وعربياً لأكثر من عقدين أواخر القرن العشرين. وما أن أهل القرن الحادي والعشرين، حتى برزت أنياب العولمة بأبعادها الاقتصادية والإعلامية تحديداً، متجاوزين البعد الثقافي تماماً إلا بما يخدم الترويج للاقتصاد السياسي للعولمة، أو لمزيد من هيمنة الإعلام على الثقافة. ومن هنا برزت «الهويات النوعية» – ذات الشرعية بالطبع – مثل قضايا المرأة، والجندر، والمجتمعات الأهلية أو المدنية...الخ، على حساب الهويات القومية، وثقافة الوحدة الوطنية والاندماج الاجتماعي الذي يتحقق بعمق الاندماج أو الحياة الثقافية قبل غيرها. من هذا المنفذ، بدأت ثقافات الأقليات والطوائف تزحف إلى حد فقدانها الصلة حتى بثقافة الهويات النوعية، فلم تعد المرأة في مجتمع محدد، بل في الحركة النسوية العالمية، وكذلك باتت حركة الشباب، وتجمعات المجتمع المدني…الخ. ومن هنا لم يعد التفتت الاجتماعي خطراً على «الحركة العالمية » المعنية، بل جاءت دعاوى «الإسلام السياسي» أيضاً – وهو نتاج الثقافة المحلية أساسا- لتجعل الأوطان والمجتمعات الوطنية من دون قيمة تذكر في «الصراع العالمي» للإسلام السياسي. وتكاد تصبح كل قوى العولمة أو «الهيمنة العالمية » و«الإعلامية»، و«الدينية» على خط مستقيم في تجاهل الثقافات الوطنية الموحدة للمجتمعات، بعضها يذهب بالثقافة إلى ما بعد «الحداثة» وما بعد السياسة الوطنية ! وبعضها يجعل «الميديا» ووسائل الاتصال جميعاً أداة للعزلة والإقصاء، أي بعيدة عن مفهوم ثقافة ديمقراطية حقيقية، وبعضها يذهب بالدين من عولمة استثمار السياسي فيه إلى التفتيت الطائفي من دون أى إحساس بالمسؤولية المجتمعية أو العدالة الاجتماعية، ناهيك عن الديمقراطية. من هنا غابت الحركات الإسلامية عن تاريخ حركة النهضة الحديثة، وعن موروث «شيوخ النهضة»، بل وموروث الشخصيات السياسية الدينية في الحركة المهدوية (خاصة في أفريقيا من عثمان دان فوديو إلى الكانمي، وعمر تال.. إلى محمد أحمد المهدي)، فهؤلاء جميعا كانوا دعاة «إصلاح ديني» أو تحديث! وقد لا يصدق البعض - حتى نقدم دراسة عنه – أن أحد الاتهامات التى وجهت للشيخ عثمان دان فوديو (قائد الفولانية والهوساويية)، إنما كانت لتأكيده على دور النساء، وإبرازهن في مجالسه، ودور ابنته الشاعرة الفقيهة «أسماء»! هذا الجو لحركات الثقافة المحلية – وهي دينية في بعضها كما نرى – هو الذي نجد بديله العولمي الحديث عند «بوكو حرام» بمعنى تحريم التعليم الحديث باتهامه بـ«الغربنة»، أو فيما يسمى بـ«داعش»، أو ما يسمى زورا بالحركات الجهادية، وهي – وياللعجب - الداعية للجهاد ضد المسلمين بالأساس، كما رأينا في مصر. ونرى في بلاد الشام.. هذه الحركات التدميرية باتت في صدارة السياسة والميديا العالمية، ومن ثم باتت الأقدر على التدمير الاجتماعي والثقافي من دون أي صوت للثقافة الوطنية، أو دمج للثقافي بالاجتماعي بالديمقراطي على نحو ما نتصور. من هنا سعدت بما نشر في مصر، عن عودة الحديث عن «استراتيجية ثقافية»، أو سياسة ثقافية لمصر «كما اسمتها ورقة الأستاذ السيد ياسين إلى المجلس الأعلى للثقافة ولتناقشها الجماعة الثقافية في مصر، انطلاقاً من ضرورة – نتمناها- عن عودة الاعتبار للثقافة الوطنية، التوحيدية، والديمقراطية. وسأعود إلى هذا الموضوع بالتأكيد، وخاصة في بعده الدولي أيضاًَ، لأنى أخشى من غياب هذا البعد في ورقة استراتيجية، لنهتم مبكراً، بأبعاد العولمة غير الإنسانية السائدة، رغم تبشير اليونسكو مبكراً بوجهها الإنساني، ورغبتي الملحة في التنبيه لدور الحوار الثقافي والحضاري ليس كما صاغته الدوائر العالمية بين العرب وأوروبا فحسب، وانما أعني بنقل هذا الحوار – المصري العربي طبعاً - ليصير مع الثقافات الأفريقية والآسيوية وأميركا الجنوبية، والقول بأن «الانفتاح النقدي على العالم» يعني أيضاً نقد ما تروج له «الميديا العالمية» فقط عن طائفية وأقليات العالم العربي وأفريقيا، وليعني «النقد» بعده الجدلي بين ثقافات وطنية ذات تاريخ في أفريقيا والعالم العربي.