«الربيع العربي».. المواطن بين أَهون المفسدتين!
اختلف أهل الرأي في شأن «الربيع العربي»، عشية انطلاق أحداثه وإطلاق التسمية؛ بين مؤيد ومشكك وقاطع بفساده. كانت تسمية «الربيع العربي» مغرية، ويبدو أنها صيغت بعناية، ومعلوم ماذا يعني الربيع للأرض والأحياء. فهو قرين الشباب والجمال. كانت تسمية مؤثرة في النفوس، جاءت ضد أنظمة جمعت بين الاستبداد والفساد وإهمال الشعوب والبلدان. حتى أن بعضها أفسد مفردة الديمقراطية والشعبية وكل المسميات المقترنة بالعدل والحرية، وما كانت تتحدث عنه الثورات والانقلابات، بداية من البيان الأول.
قبل سريان تسمية «الربيع العربي» كان الإعلام الغربي قد أطلق على ما حدث في تشيكوسلوفاكيا «ربيع براغ» (يناير 1968)، والذي شغل وسائل الإعلام لفترة طويلة مع فشله خلال شهور، وهو أن أمين عام اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، الكسندر دوبتشيك (ت 1992)، اتخذ سياسة الاشتراكية الديمقراطية لمواجهة الأزمة الحادة، بما لا يُناسب بقية العالم الاشتراكي آنذاك، فتدخلت قوات حلف وارسو (أغسطس 1968) وحولت «الربيع» إلى خريف، وبالتالي كان حدثاً مهماً خلال الحرب الباردة بين النظامين الرأسمالي والاشتراكي، ومع انتهاء ذلك الحدث ظل «ربيع براغ» حاضراً حتى انطلقت تظاهرات في «مارس 1969) أدت إلى استقالة «دوبتشيك»، لينتهي التفكير في الإصلاحات بالتخفيف من قبضة الحزب الواحد.
أما ربيعنا العربي، الذي حدث في شتاء (2010) والبداية بتونس ثم مصر، وامتد إلى ليبيا، ليستمر بها خلال الربيع والصيف والخريف، فقد حصل في زمن آخر، جاز فيه تصدير الديمقراطية بلا حواجز من قِبل العالم الغربي، الذي استبدل ديمقراطية جمهورية تشيلي بانقلاب عسكري دموي (سبتمبر 1973).
إنه العجب العُجاب أن يدعم الأميركيون ديمقراطية تأتي بـ«الإخوان المسلمين» إلى حُكم مصر، بينما دفعوا بانقلاب عسكري ضد سلفادور أليندي (قُتل 1973)، وأن تندفع الديمقراطية الأميركية بلا اعتبار لحقوق الإنسان بتحويل ملاعب العاصمة سانتياغو إلى حمامات دماء، وبين المقتولين كان الشاعر الشهير بابلو نيرودا، والفنان فكتور جار، مع أن أليندي لم يكن منتمياً إلى الحزب الشيوعي التشيلي، إنما الأخير كان يدعم توجهاته! ومن عجب أيضاً أن الاتحاد السوفييتي يدعم تحولاً ديمقراطياً، جاء مطابقاً للديمقراطية الغربية، من حيث الإجراء الانتخابي، الذي لم تعرفه أي منطقة تتبع نفوذ موسكو آنذاك.
قلنا لمن حكم على «الربيع العربي» بالفساد بأنه كان متسرعاً، وعندما كنا نتحاور نقول: لننتظر النتائج فالحوادث بنهاياتها، وكنت أحد القائلين بأن الخير يأتي بعد قليل من الشر، بل كان الكثيرون يميلون إلى فكرة تقول: إن الأميركيين والأوروبيين دعموا أو بشروا بالربيع كي يستدرجوا أحزاب الإسلام السياسي ليفضحوا فشلها، بعد أن يضعوها أمام الأمر الواقع، حتى أن هناك من استبدل تسمية «الربيع الإسلامي» بـ«الربيع العربي». غير أن الحوادث تكشف: إن الأميركيين لم يلعبوا هذه اللعبة.
إنما كانوا جادين في جعله ربيعاً إسلامياً، على أنهم قسموا الإسلام السياسي إلى معتدلين ومتطرفين، لضرب الأخيرين بالأولين، وبالفعل بشروا بهذا الاعتدال، وهم يعلمون، علم اليقين، أصل هذا التطرف، وأمه وأباه، إضافة إلى انقساماته المذهبية، وخطره على البلدان المختلطة، وقد اتضح ذلك جلياً من موقف الإسلاميين من «داعش»، بل وفضح آمالهم في طلب الخلافة، وكل الذي قالوه: إنها واجبة غير أنه ليس وقتها، على أن «داعش» استعجلت الأمر. بمعنى الاختلاف في التوقيت لا أكثر.
عندما شاعت تسمية «الربيع العربي» قفزنا نحن الحالمين بعراق تتناسب الحياة فيه مع ثروته وتاريخه الحضاري؛ فقلنا إن هذا الربيع بدأ بالعراق! في (9 أبريل 2003)، على أمل أن الفترة الانتخابية الثانية ستمحو سيئات الأولى، حتى داست أرضنا سنابك خيول الإسلام السياسي المتطرف، حسب التسمية الأميركية، على أن هناك معتدلاً فيه! فبعد أن عاث الإسلام السياسي، بطرفيه، الحاكمين والمقاومين، فساداً وقتلاً، وارتفع الهياج الديني إلى مستوى أن تتحول الطائرة إلى قاعة لطم ومناحة، وتتحول جامعاتنا إلى منابر دينية، بينما الطرف الآخر مِن هذا التدين يغزو الأرض، ويمارس عليها أبشع الموبقات ضد الإنسانية.
هنا نقف أمام مقولة: إحدى المفسدتين، البقاء على فساد الحاكم أم فساد الربيع! وهي مفارقة كبرى أن نتحدث عن ربيع فاسد! نعم، يكون ذلك عندما تقترن مسميات الطبيعة الجميلة بالسياسة القبيحة، حتى عطور ورود البساتين تتبدل في حواس المظلومين في أجواء الربيع المزهرة.
ماذا نريد من المواطن الليبي وهو يقف حائراً بين نيران المتقاتلين، ولا يدري من معه ومن ضده؟ ماذا يُرجى من المواطن التونسي وهو يُهَدد بجماعات ظهرت من قمقمها المظلم، مؤيدة من قِبل شيوخ الفتنة ورؤسائها. خلال عام واحد أطلق الغانمون من الربيع بمصر كل الإرهابيين، حتى أن قاتل فرج فودة (1992) ظهر على شاشات الفضائيات مرحباً به كبطل من أبطال العبور. هذا هو الوجه المعتدل، حسب المنطق الأميركي، من الإسلام السياسي!
إن من أخطر نتائج «الربيع العربي»، ومن ضمنها العراقي، أقولها وأنا أحد المتضررين من النظام السابق، أن الأوطان لم تعد أوطاناً، تسلطت على عواصمها مافيات، فكان القاتل واحدا والسارق واحدا أيضاً، فتفرعا الآن إلى ألوف مؤلفة من القتلة والسارقين، وكذلك الحال ببلدان «الربيع العربي» الأخرى.
نعم، كان الحاكم السابق كملك «الزَّانج» الذي قال عندما سمع بامرأة أكل ابنها التمساح: «وفي مكان أنا فيه شيءٌ يشاركني في قتل النَّاس؟» (الجاحظ، رسالة فخر السودان على البيضان)! لكنه كان يحمي الناس من بقية التماسيح، أما بعد «الربيع العربي» فصار المواطن في مواجهة تماسيح لا تمساح واحد، فشر أيهم يتقي؟
أما أهون المفسدتين فنأخذها بالقياس على حكم العاشق بين مفسدتين، قال الفقهاء: «لا ريب أن الشريعة جاءت بالتزام الدخول في أدنى المفسدتين، دفعاً لأعلاهما، وتفويت أدنى المصلحتين تحصيلا لأعلاهما، فأين مفسدة النظر والقبلة والضم مِنْ مفسدة المرض والجنون، أو الهلاك بالجملة» (ابن قيم الجوزية، روضة المحبين ونزهة المشتاقين).
أصف الحال ولا أقررها، فلو سألت أماً قُتل أبناؤها الخمسة وهُجرت بين الشعاب والجبال وتحت أزيز رصاص العصابات الدينية أي المفسدتين أهون عليها؟ أجيبوا أنتم عنها، مع التحذير من المزايدة. فليس الذين توقعوا فساد الربيع كتبوا عن عظمة حقوق الإنسان عند القذافي (قُتل 2011) ولا عن «ديمقراطية» صدام حسين (أعدم 2006).