أمراض الحضارة.. والاعتلالات الصحية
يرتبط مفهوم الحضارة، وبشكل وثيق، بالعديد من الصفات والخصائص الاجتماعية، والسياسة، والاقتصادية، مثل ظاهرة التمدين أو بناء المدن والعيش في محيطها، ومركزية الحكم والإدارة، وتدجين بعض الحيوانات والنباتات، وربما حتى الإنسان ذاته، وظهور التخصص في المهن والوظائف، في إطار من التقدم الفكري والأيديولوجي، يتميز بالإيمان بالتفوق النوعي على الأجناس والشعوب الأخرى، وببناء النصب الضخمة، ودور العبادة، ضمن نظام اقتصادي يعتمد لحد كبير على الزراعة والصناعة، مع فرض ضرائب على الأفراد والمؤسسات، وفي ظل فكر سياسي عسكري، تتمحور عقيدته حول التوسع والتمدد، والذي غالباً ما يكون على حساب المجتمعات والدول المجاورة، في شكل استعمار أراضيها، واستغلال مصادرها الطبيعية. ورغم أن التحضر، تاريخياً، كان ينظر له على أنه نوع من التقدم الإنساني الاجتماعي، مقارنة بالمجتمعات البدائية، البربرية والمتوحشة، فإن النظرة الحديثة تصنف الحضارة على أنها مجرد تركيب اجتماعي، يختلف ويتباين مع التركيبات الاجتماعية التقليدية، مثل تلك المعتمدة على حياة الصيد والجمع، أو مجتمعات البدو والرعاة الرحل، أو المجتمعات المتمركزة حول القبيلة، والعشائر والبطون.
وأثر هذا التقدم الاجتماعي، وتأثر أيضاً لحد كبير، بعلاقة الإنسان بالصحة والمرض. فعلى سبيل المثال، أدت الاختراقات العلمية عبر العصور، إلى اكتشاف علاجات لأمراض حادة ومزمنة، لطالما لازمت أفراد الجنس البشري منذ أن وطأت أقدامه سطح هذا الكوكب. وأفضل مثال على ذلك؛ هو المضادات الحيوية التي تستخدم ضد الجراثيم والميكروبات، والتطعيمات الطبية التي يقدر بأنها تنقذ حياة عشرات الملايين من الأطفال سنوياً. ولكن على الجانب الآخر، أدى تمركز أعداد كبيرة من البشر، قد يصل لبضعة ملايين، ضمن مساحات محدودة تعرف بالمدن، وزيادة الاتصال والتواصل بين المجتمعات المختلفة، وسهولة السفر والتنقل بين الدول والقارات، إلى تحول أوبئة الأمراض المعدية، التي كان يفترض لها في الأزمنة الغابرة أن تظل محدودة جغرافياً لحد كبير، إلى كوارث عالمية بكل المقاييس، حصدت أحياناً حياة عشرات الملايين من البشر. مثل وباء الطاعون، أو الموت الأسود، الذي اجتاح القارة الأوروبية في منتصف القرن الرابع عشر، وأدى إلى وفاة 75 مليون شخص حول العالم، منهم 20 أو 30 مليونا في أوروبا وحدها في غضون ست سنوات، وهو ما يعادل ثلث سكان القارة حينها، وفي بعض التجمعات المدنية وصلت هذه النسبة إلى نصف عدد السكان. ومع بدايات القرن التاسع عشر، وفي السنوات الأولى من الحرب العالمية الأولى، ظهر وباء الإنفلونزا الإسبانية، لينتشر أيضاً حول العالم، ويصيب 500 مليون شخص، لقى منهم 50 مليونا حتفهم، أو ربما ضعف هذا الرقم حسب بعض التقديرات.
وبخلاف هذه الأمثلة الدرامية لعلاقة الحضارة بالصحة والمرض، أدى هذا الشكل من التطور الاجتماعي الإنساني، إلى تأثيرات أقل وضوحاً وظهوراً للعيان، وإنْ كانت ربما أعظم، وأكثر فداحة، في حجم ثمنها الإنساني والاقتصادي، مقارنة بالأوبئة سابقة الذكر. ولفهم طبيعة هذه التأثيرات، وكيف تطورت، يجب أن ندرك أن جسم إنسان العصر الحديث، من المنظور التطوري العضوي، لا زال متوقفاً في العصر الحجري، عند مرحلة الصيد والجمع والحياة ضمن تجمعات قبلية محدودة. بمعنى؛ أن إنسان العصر الحديث، أصبح يعيش في بيئة طبيعية، واجتماعية، لا تتناسب لحد كبير مع مكوناته الفسيولوجية وصفاته البيولوجية، مما يجعله عرضة لطائفة من الأمراض، تعرف بأمراض الحضارة أو أمراض الرفاهية والثراء.
فعلى عكس غذاء إنسان العصر الحجري، وحياة الصيد والجمع، أصبح غذاء العصر الحديث يحتوي على كميات كبيرة من الدهون، والأملاح، والكربوهيدرات البسيطة، والتي كثيرا ما تشمل السكريات المكررة، بالإضافة إلى الدهون المهدرجة. والمعروف أن هذه النوعية من الغذاء، تزيد بقدر ملحوظ من احتمالات الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وبأمراض القلب والشرايين، وداء السكري بمضاعفاته الخطيرة والمتنوعة، بالإضافة إلى تسوس الأسنان وسقوطها. ومن المفارقات الغريبة أيضاً، أن التطور الحضاري بجميع أشكاله، وخصوصاً على صعيد الاختراقات الطبية، أدى إلى زيادة مهولة في متوسط العمر أو مؤمل الحياة، والذي أدى بالتبعية إلى زيادة –نسبية- في طائفة الأمراض المرتبطة بالتقدم في العمر، والتي تعتبر حالياً مسؤولة عن وفاة 100 ألف شخص يومياً –من بين 150 ألف يلقون حتفهم كل يوم حول العالم- أو تسعين بالمئة من جميع الوفيات في الدول الصناعية والغنية. وتتضمن هذه الطائفة الأمراض السرطانية، والتهابات المفاصل، وتصلب الشرايين، وأمراض القلب، وقتامة عدسة العين، وهشاشة العظام، وعته أو خرف الشيخوخة، وارتفاع ضغط الدم، وحتى داء السكري من النوع الثاني.
وإنْ كان الأكثر غرابة في علاقة الحضارة بالصحة والمرض، هو ما يعرف بنظرية النظافة، والتي تنص على أن إنسان العصر الحديث، وكنتيجة للغسيل المستمر للجسد، واليدين، والملابس، والأواني، بالإضافة إلى الرعاية الصحية، أصبح في الغالب لا يتعرض للطفيليات، وخصوصا ديدان الأمعاء. وهو -على حسب النظرية السابقة- ما يعيق التطور الطبيعي لجهاز المناعة، والذي كما ذكرنا سابقا لا زال يعيش في العصر الحجري كبقية أعضاء وأجهزة الجسم، مما يتسبب في زيادة احتمالات الإصابة بأمراض المناعة الذاتية، والتي هي في جوهرها اختلال في كيفية عمل جهاز المناعة، يتمثل في فشله في التفرقة بين خلايا وأنسجة الجسم، وبين الجراثيم والميكروبات الغريبة.