إبداع فاطمة المرنيسي, الروائية, والكاتبة, والسوسيولوجية المغربية, يأتي من إلتقاطها لحوادث أو صيرورات عابرة نمر بها جميعاً فلا نكاد نعطيها أية أهمية. في كتبها الأولى, حول المرأة المغربية والعربية وإضطهادها وثقافة الحريم التي عاشتها, ربما كان كثير مما ألتقطته المرنيسي معروفاً, لكن مخبأً خوفاً من الفضيحة! إلا أن مرارة المعالجة وجرأتها هو ما ميز ما قدمته. في سلسلة كتبها وأفكارها الأخيرة تقدم إضاءات جديدة. في كتاب "شهرزاد ترحل غرباً" أبحرت المرنيسي في مفهوم "حريم الغرب" المسجون بأسوار الزمان (التمسك بفترة الشباب والنضارة وإعتبار ما خلاها لا يستحق أن يُعاش) والذي بمعنى ما لا يختلف عن حريم الشرق الذي كان يُسجن بأسوار المكان.
مؤخراً وفي معرض فرانكفورت للكتاب الدولي قدمت المرنيسي إلتقاطة جديدة وممتعة في طرح تساؤل كالآتي: من الفائز في العولمة: السندباد أم الكابوي؟ وهو تساؤل فيه تراكيب قد تبدو للوهلة الأولى غير متسقة, حيث يُقارن سندباد الحكايات الماضية في قرون الشرق بكاوبوي الغرب في الزمن الحاضر. وحيث تُقارن عولمة راهنة في قلبها رأسمال لا يهدأ من التجوال بحثاً عن الربح, بعولمة عصر السندباد التي لم تكن فيها الشركات متعددة الجنسيات ولا الضرائب ولا حقوق الملكية الفردية! لكن المرنيسي المهمومة بحوار الشرق والغرب على قاعدة ندية تواصلية وليس أسبقيات أفضلية تكسر محددات الزمن وتلتقط فكرة الأدب والترحال بإعتبارهما قلب تعولم الشرق القديم, وتطرحهما بديلاً تواصلياً عن عولمة اليوم التي تراها متوحشة ويحتل العنف موقع القلب منها.
السندباد عندها هو الرحالة الذي لا يعرف حدوداً للجغرافيا, بوصلته وصية أبو تمام "إغترب تتجدد", وأنشودته ترانيم الشاعر الصوفي التنيسي: "وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: تفرج نفس, وإلتماس معيشة, وعلم, وآداب, ورفقة ماجد". الكاوبوي عندها هو الرحالة المهجوس بتملك الجغرافيا وإحتلالها وإعتبارها ثروته الخاصة. همه نصب القواعد والأركان وحماية ما تم إحتلاله من أراض. عند السندباد الأمر أبعد كثيراً مما قد توحي به الأشعار ورومانسية التعرف على جغرافيات جديدة. فمن أهم ما فيه وعنه هو ما نقلته عن الجاحظ, ناصحاً خلفاء بني العباس, قائلاً: "الأدب عقل غيرك تزيده في عقلك". وهي تتوقف هنا عند النظرة الإستكشافية المعرفية إلى "الغريب" وإعتباره مصدر للمعرفة يتم التواصل معها لزيادة المعرفة الذاتية. هذه النظرة الإيجابية للغريب تسم عولمة السندباد وتفترق عن عولمة الكاوبوي الذي برأي المرنيسي نظر للغريب نظرة إستعداء مسبقة. ففي خضم دفاعه عن الجغرافيا التي أحتلها وسيجها وحصن نفسه فيها وخلف أسيجتها, صار يتعامل مع الغريب بالرصاص والتحصينات. من يقترب من السياج يدفع ثمناً غالياً. ثم في المرات التي يخرج فيها الكاوبوي من قلعة تحصيناته يخرج مدججاً بالسلاح غازياً ومحتلاً جغرافيات جديدة.
ما نفهمه من طرح المرنيسي لمفهوم السندباد التواصلي the communicator أنها تريده بديلاً لمفهوم الكاوبوي المعولم. الأول فيه إندفاعة المعرفة والإستكشاف لذات المعرفة, والثاني فيه إندفاعة الإمبرطورية الباحثة عن المغانم. وطرح كهذا, وفي سياق نزوع إنسانوي عارم في الدوائر الثقافية والأكاديمية التي تنشط فيها المرنيسي يستحق التقدير بلا تردد. لكنه في ذات الوقت يحتاج إلى تنمية من أكثر من جانب حتى يزداد غنى وصلابة ويفلت من الإتهام بالمركزية الشرقية عكساً للمركزية الغربية.
في المقام الأول تأتي مسألة تحرير مفهوم السندباد والكابوي من أية إحداثيات جغرافية وزمانية وإعطائهما صفة الصيرورة التي قد تتواجد في أي جغرافيا وفي أي زمان. بهذا التحرير يتم تفادي التورط في مانوية تبسيطية تعتبر الشرق ملاذ البراءة والغرب مصدر التوحش بما يخدم في المقام الأول أطروحات تصنيف الحضارات والثقافات ضد بعضها بعضا. في شرق السندباد الذي حفل بأدبيات رائعة حول الإستفادة من الغريب وترجمة الثقافات والإنخراط معها وفيها وإستيعاب علومها كان هناك كاوبوي يغزو العالم أيضاً بحثاً عن المصالح وإحتلال الأراضي وضمها وضم ثرواتها. وبعيداً عن البراءة الساذجة التي أحياناً كثيرة ندعيها لأنفسنا كانت هناك حقب في تاريخنا سمتها الغزو الخارجي والإحتلال, أياً كانت التسميات التخفيفية التي نطلقها عليها. في المقابل وفي الوقت الراهن نرى سندباد الغرب يقاوم كاوبوي الغرب توكيداً على أن المفهومين غير محصورين بالجغرافيا بل هما خارقان للثقافات. ففي الآن الذي يتوحش فيه الكاوبوي الغربي نجد أن أشد مقاوميه ضرواة هو السندباد الغربي نفسه. ولعل أفضل تجسيد لمفهوم السندباد الغربي هو الحركات الإنسانية المعادية للتوحش الرأسمالي المعولم, والمعادية لأسلحة الدمار الشامل, والمعادية للحروب الإمبريالية البوشية. وكذا الحركات الداعية لإنهاض أفريقيا والعالم الثالث وإلغاء ديونهم ومساعدة شعوبهم.
من دون أن نفرق بين سندباد الغرب وكاوبوي الغرب فإننا نقع في شباك نفس التعميمات الع