ميزانيات البحث العلمي ومحددات التفوق الدولي
في غضون القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومع تسارع وتيرة التقدم التكنولوجي، قبل وخلال الثورة الصناعية، اعتمد البحث العلمي في معظمه على وقت ومال المخترع الفرد. وهو ما أدى إلى ظهور ما يعرف بنظام براءات الاختراعات وحقوق الملكية الفكرية، لمنح المخترع فترة زمنية -عشرين عاماً في الغالب- حتى يتسنى له تسويق اختراعه، وتحويله إلى منتج تجاري يمكن بيعه، ومن ثم استعادة رأس ماله، وتحقيق ربح على استثماراته من الوقت والمال. وهذه الفكرة على نبلها، أثبت الواقع صعوبة تحقيقها في الكثير من الأحوال، نتيجة كون المواهب والملكات التي يتمتع بها المخترع، تختلف عن القدرات والإمكانات التي يحتاجها رجل الأعمال.
ومع حلول القرن العشرين أصبح البحث العلمي والتكنولوجي منظماً وممنهجاً بشكل متزايد، مع إدراك الشركات الكبرى أن الاستثمار المستمر والمتواصل في ما يعرف بالبحث والتطوير، يشكل ركناً أساسياً للنجاح ضمن استراتيجية الأعمال التنافسية. وهي الحقيقة التي أدركتها أيضاً حكومات العديد من الدول، بحيث أصبح الاستثمار في البحث والتطوير -إما بشكل مباشر أو من خلال المؤسسات الأكاديمية والجامعات- يشكل حجر الزاوية في أي استراتيجية وطنية، هادفة لتحقيق مرتبة متقدمة على صعيد التنافسية العالمية. وهو ما يتضح من الإحصائيات والبيانات الصادرة عن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) الأربع والثلاثين، التي تظهر أن الجامعات تنفق 20 في المئة من إجمالي ما ينفق على البحث العلمي في تلك الدول، بينما تنفق الحكومات 10 في المئة. وفي بعض المجالات، مثل العلوم الاجتماعية، والانسانيات، تزيد مساهمة الحكومات عن ذلك بكثير، حيث يشكل مثلاً إنفاق الحكومة الأميركية على الأبحاث الطبية حوالي 36 في المئة من مجمل ما ينفق على الأبحاث في هذا المجال العلمي، داخل الولايات المتحدة. وهو ما ينطبق أيضاً على الأبحاث في ما يعرف بالعلوم الأساسية، التي تشكل القاعدة العلمية لجميع الأبحاث العلمية، ولا يتوقع أن ينتج عنها منتج تجاري يحقق ربحاً مباشراً.
ويختلف ويتباين إلى حد كبير حجم ما تنفقه حكومات الدول المختلفة على البحث والتطوير، حيث تنفق الولايات المتحدة مثلاً، أكثر من 400 مليار دولار سنوياً على البحث والتطوير، تليها في ذلك الصين بحجم إنفاق يقارب على 300 مليار، ثم اليابان بـ160 ملياراً. وفي الوقت نفسه نجد أن ميزانيات البحث والتطوير لا تبلغ حتى المليار الواحد في ثماني دول مجتمعة هي لاتفيا، والسودان، والجزائر، وكوستاريكا، وأوغندا، وبتسوانا، وأذربيجان، وإثيوبيا، كما لا تبلغ ميزانيات الأبحاث والتطوير في 16 دولة، واحداً في المئة من حجم ما ينفق على البحث والتطوير في الولايات المتحدة.
وقد يفسر البعض هذه الأرقام على أنها نتيجة الفارق في حجم اقتصادات تلك الدول، فالولايات المتحدة مثلاً التي تنفق 400 مليار دولار سنوياً على الأبحاث العلمية، تتمتع باقتصاد يزيد ناتجه القومي الإجمالي عن 16 تريليون دولار سنوياً، تليها الصين التي تنفق 300 مليار، وتتمتع باقتصاد يزيد حجم ناتجه القومي عن 8 تريليونات دولار، وحتى اليابان التي تنفق 160 مليار دولار -فقط- على الأبحاث العلمية، يقارب الناتج الاقتصادي القومي لها 6 تريليونات دولار. ولكن مثل هذا التفسير -أو بالأحرى العذر- يتهاوى المنطق المغلف له، إذا ما نظرنا إلى قائمة الترتيب الدولي، حسب نسبة ما ينفق على البحث والتطوير، من إجمالي الناتج القومي، أي حجم الإنفاق على الأبحاث العلمية مقارنة بحجم الناتج الاقتصادي.
ورأس هذه القائمة تحتله حالياً إسرائيل التي تنفق حالياً 4,2 في المئة من مجمل دخلها القومي السنوي على الأبحاث والتطوير، وهي النسبة التي تترجم إلى أكثر من 9 مليارات دولار سنوياً. تليها في ذلك كوريا الجنوبية، التي تنفق 3,74 من مجمل دخلها القومي على الأبحاث والتطوير، وهي نسبة تترجم إلى 55 مليار دولار سنوياً. وغني عن الذكر هنا حجم التقدم التكنولوجي والاقتصادي الذي بلغته كوريا الجنوبية بين دول العالم خلال العقود والسنوات القليلة الماضية.
وعلى النقيض من ذلك نجد أن أكثر الدول الإسلامية إنفاقاً على البحث والتطوير، تركيا، تنفق أقل من 1 في المئة، أو 0,92 في المئة بالتحديد، من مجمل دخلها القومي السنوي. وبين الدول العربية تحتل تونس رأس قائمة الدول العربية إنفاقاً على البحث والتطوير -بالنسبة إلى مجمل دخلها القومي- بنسبة 0,86 في المئة بالتحديد، وهو ما يترجم إلى 660 مليون دولار فقط سنوياً. بمعنى أن نسبة ما تنفقه إسرائيل من مجمل دخلها القومي -4,2 في المئة- يقارب خمسة أضعاف نسبة أكثر الدول العربية إنفاقاً على البحث العلمي. وبحساب الدولارت البحتة، وبالنظر إلى حجم الناتج الإسرائيلي، الذي يقارب 250 مليار دولار سنوياً، وأخذاً في الاعتبار أن إسرائيل تنفق 4,2 في المئة من هذا الناتج على البحث العلمي، وهو ما يترجم إلى 9 مليارات دولار سنوياً، يمكن الاستنتاج بأن حجم ميزانيات الأبحاث العلمية والتطوير في إسرائيل، تزيد على حجم ميزانيات الأبحاث العلمية في دول الجوار مجتمعة.