«في أحد أيام السبت مؤخراً، بعثتُ 112 رسالة نصية، وتفقدت بريدي الإلكتروني 37 مرة، وراجعت حسابي على الفيسبوك وتويتر وإنستغرام مرات كثيرة.. كما قمت بحجز وجبة عشاء في مطعم باستعمال موقع أوبن تايبل على الإنترنت، وتصفحت مجلة على التطبيق الهاتفي، واستعنت بخرائط جوجل للذهاب إلى محل البقالة، ثم العشاء في المطعم، فالعودة إلى المنزل. وقبل أن أنام، ضبطت المنبه على هاتفي آي فون، ووصلته بمقبس الكهرباء بالقرب من سريري ليشحن، ثم وضعته قرب وسادتي بعناية، واستسلمت للنوم. وفي الصباح التالي، مددت يدي بشوق لأصل إلى هاتفي وأتفحصه». الكاتب والصحفي الكندي مايكل هاريس قلق لمآل هذه العلاقة مع التكنولوجيا إذ يقول: «رغم أني أقول لنفسي إني لست بحاجة لهاتفي الذكي، فمن الواضح أنه هو كل ما أفكر فيه.. إنه يخبرني بكل ما أريد الاستماع إليه من موسيقى ويذكِّرني بمواعيدي والتزاماتي. لكن بأي ثمن؟". في كتابه «نهاية الغياب.. استرجاع ما فقدناه في عالم دائم الاتصال»، ينبه هاريس إلى عواقب وتداعيات الانتقال الجماعي إلى الحياة المرتبطة بالإنترنت. ومن خلال حوارات أجراها مع مؤرخين وعلماء نفس وأطباء وخبراء آخرين، يؤكد أسوأ شكوكنا: أن البقاء على اتصال بالشبكة شيء مذهل بلا شك، لكنه يجعلنا في الوقت نفسه كسالى وأنانيين ومشتتي الانتباه. هاريس قسّم كتابه إلى سلسلة من التخوفات حيال تأثيرات التكنولوجيا الحديثة على وظائفنا الإدراكية وعلاقاتنا الاجتماعية وتفاعلاتنا مع العالم؛ لكنه يبدو قلقاً بشكل خاص فيما يتصل بالأطفال الذين لن يعرفوا أبداً العالم بدون إنترنت. كما يشتكي بمرارة من «ويكيبيديا»، الموسوعة الحرة على الإنترنت، التي يمكن لأي شخص المساهمة فيها وتحرير محتواها بدون تحقق من مدى صحته ومصداقيته. ويأسف على ثقافة تسجيل كل شيء التي بتنا فيها نتوق لتحميل صورة وجبة على موقع «إنستجرام» أكثر من توقنا لتناول الوجبة نفسها. لذلك، فهو يشعر بأننا بتنا منفصلين على نحو متزايد عن «الأصلي» عندما بدأنا نستبدل التفاعل والتواصل الحقيقي والواقعي بمجرد نسخ. وفي فصل منفصل، يشير هاريس إلى دراسة أجريت بجامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس واختبرت تأثيرات استعمال الإنترنت على المرونة العصبية للدماغ عند من يطلق عليهم «سذج الإنترنت»، فوجدت أن ممرات عصبية جديدة تتشكل بعد بضع سويعات فقط من الإبحار عبر الشبكة العنكبوتية. وعليه، يقول هاريس محذراً: إذا تعرض الأطفال لمثل هذا القدر من تأثير الشاشة كل يوم، فإن تفكيرهم قد يصبح أكثر ضحالة وسطحية نتيجة لذلك؛ ويحكي هنا كيف أنه تعجب من ابن أخته الصغير وهو يتصفح بأنامله الصغيرة مجلة على حاسوب لوحي محاولا جعل الصور تتغير عبر لمس الشاشة. بيد أن الموضوع الذي ينشغل به هاريس في هذا الكتاب واسع ومتشعب، والطرق التي غزت بها الإنترنت حياتنا جد متنوعة لدرجة يمكن معها القول: إن الكتاب لا يقوم بأكثر من وضع الأصبع على المشاكل التي أوجدها اقتحام ثورة التكنولوجيا والمعلومات لحياتنا. أما الموضوع الذي اختار الخوض فيه بإسهاب وتفصيل، فهو ذاك المرتبط بالغياب؛ إذ من فرط اتصالنا المستمر بالشبكة، ومن خلالها بأقاربنا وأصدقائنا ومعارفنا، فقدنا الشعور بشيء اسمه الغياب. وهنا يجري هاريس مقابلات مع خبراء في محاولة لتأكيد صحة أطروحته القائلة بأننا أخذنا نفقد شيئاً ثميناً، لكنه يجد صعوبة في تعريف ماهية «الغياب»، وإنْ كان حنينه إليه يبدو كبيراً جداً. يقول هاريس: «إن قيمة الغياب هي دائماً شيء غير ملموس.. سواء أكان ذلك الغياب ذكرى أو واقعاً موجوداً». وفي محاولة منه لاختبار قيمة «الغياب»، حدد المؤلف لنفسه أسبوعين لقراءة رواية الكاتب الروسي ليو تولستوي «الحرب والسلام». ويقول في هذا الصدد: «أطفأت هاتفي.. فأنا أريد أن أقرأ، لكني توقفت. أعلم أن مصادر الإلهاء مغرية، لكنني أجدني أذهب إليها مع ذلك». وفي الأخير نجح في الاعتكاف وعزل نفسه لما يكفي من الوقت للغوص في كتاب تولستوي وإكمال قراءة الرواية؛ لكنه حزين لأنه بنهاية التجربة وجد أن لا شيء سحرياً حدث –لأنه مازال «متصلا كلياً بالشبكة». لذلك ربما ليس مفاجئاً أن هاريس لا يستطيع إسداء نصيحة في هذا الباب لمن دوختهم الإنترنت عدا أن يكونوا أكثر حذراً في اختيار التكنولوجيا التي يستعملونها وبخصوص كم من الوقت يقضونه معها. غير أنه في عالم أضحى فيه الارتباط بشبكة الإنترنت متاحاً في كل مكان تقريباً، يبدو ذلك أشبه بقولنا لطفل صغير وضعنا الحلوى أمامه ألا يأكل منها. محمد وقيف الكتاب: نهاية الغياب.. استرجاع ما فقدناه في عالم دائم الاتصال المؤلف: مايكل هاريس الناشر: كارانت هاردكافر تاريخ النشر: 2014