الثورة في الوعي والفكر
في تاريخنا الحديث، برز الطهطاوي على أنه مؤسس حركات التحرر الوطني في وجداننا القومي ببزوغ أفكار الوطنية والقومية والأمة والدستور. وقد لعب الأفغاني أيضاً دوراً في بث أفكار الشورى والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، ومنه خرجت بعض الأحزاب الوطنية المصرية. لقد تكون وعينا القومي الحديث من خلال العصر الليبرالي الذي مررنا به في القرن التاسع عشر، وكانت ثوراتنا العربية في القرن الماضي ثمرة له.
وإن التاريخ الأوروبي الحديث ليثبت أيضاً مدى قوة تأثير الأفكار في الواقع. فقد استطاع «فيشته» بنداءاته إلى الأمة الألمانية مقاومة نابليون والمساهمة الفعالة في تحرير ألمانيا حتى قال نابليون: لقد «هزم القلم السيف». كما نشأت دعوات الوحدة الألمانية أولاً في الفكر والأدب في جامعات ألمانيا قبل أن يحققها بسمارك قائد بروسيا، الشقيقة الكبرى للمناطق الألمانية الأخرى. كما نشأت الوحدة الإيطالية أولاً عند دعاتها مثل مازيني قبل أن يحققها القائد العسكري غاربيالدي. وقد حاول ماركس الشاب نفس الشيء عندما أراد تحرير ألمانيا عن طريق «الأيديولوجية الألمانية» التي تدور حول أفكار الوعي والأنا والذات والشعور والحرية والاستقلال والإرادة.. إلخ، أي خلق ألمانيا أولاً في الفكر قبل تحقيقها في الواقع. وإن ماركسيات القرن العشرين لترتبط في معظمها بماركس الشاب من جديد بعد أن ساد ماركس رأس المال تحت أثر داروين وسبنسر.
وكما استطاع الضباط الأحرار القيام بالثورات العربية منذ أكثر من نصف قرن يستطيع المفكرون الأحرار في نصف قرن قادم تأصيلها وصياغة أبنيتها الفكرية وضمان استمراريتها في التاريخ. ولا يعني المفكرون الأحرار مجرد لقب أو أي إعمال للنظر بل هو مصطلح دقيق يدل على ضرورة إنجاز مهام محددة في كل حضارة. والسؤال المطروح منذ نصف قرن هو: كيف يمكن إقامة تغير وتحديث سياسي واجتماعي في مجتمع متخلف؟ فلا يمكن إقامة بناء سياسي نظري أو ممارسة سياسية عملية دون تجاوز مظاهر التخلف في قوالب الذهن وأنماط السلوك. فالثورة السياسية ليست مجرد تغيير في النظم الاقتصادية والاجتماعية بل هي نقل لحضارة أمة من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية أخرى، أي القيام بدور تاريخي مرحلي محدد. وإذا ما قدر للثورة أن تفشل سياسياً فإنها تبقى على الأقل تياراً ثقافياً واتجاهاً حضارياً، ومرحلة تاريخية في وعي الأمة. إن مهمة المفكرين الأحرار هي التمهيد لحركة تنوير تكون قادرة على التصدي لمظاهر التخلف الفكري، وتمثل انتقال الحضارة كلها من مرحلة إلى أخرى.
وعلى سبيل المثال، قيل أولاً إن الثورات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، إن كانت قد نجحت في تغيير الأنظمة، إلا أنها لم تنجح في بناء الإنسان الثوري العربي المعاصر. بل إن ثوراتنا الحديثة قد سارت في خطين: تغيير في الهياكل القديمة، وتهرؤ للإنسان العربي المعاصر. فرغم أن الجماهير العربية قد أعطت تلك الثورات التي قام بها الضباط الأحرار ثقتها في البداية، إلا أنها لم تحز ثقتهم هم لأن قوة الضباط الأحرار تأتي من الجيش، وتقتصر مهمة الشعب على التأييد. بل ظهرت نوعيات عديدة من الإنسان العربي المعاصر فهو إما مقهور لا يمكنه التعبير عن رأيه، مشكوك في ولائه الوطني، ينعى حظه وينطوي على نفسه أو يهاجر ليستأنف حرية التعبير عن رأيه في الخارج، أو يجرفه تيار الحياة فينسى الوطن في سبيل رغد الحياة وهناء البال. وإما متسلق، وقد يصل إلى أعلى المناصب القيادية، ويتغير بتغير الحكم. لديه فكر جاهز لكل قرار. وهنا تظهر القدرات الفردية المتفاوتة بين الذكاء والغباء. وقد يكون أيضاً متعايشاً، فيحرص على لقمة العيش، ويصبح مثل الألماني بعد الهزيمة لا يفكر إلا في مصنعه وعربته وبيته، ويصبح لا يرى أبعد من طرف أنفه مع أن الثورات كلها قد قامت من أجل المواطن، وأصبح لقب المواطن Le Citoyen ?يهز ?مشاعر ?الإنسان ?أو ?أيضاً ?لقب ?الرفيق ?Le Camarade. ?ولكن ?ثوراتنا ?العربية ?في النصف الثاني من القرن الماضي لم ?تخلق ?مفهوماً ?للإنسان ?وبالتالي ?لم ?تحرص ?على ?كرامته ?وحريته ?واستقلاله. ?والمفكرون ?الأحرار ?وحدهم ?هم ?القادرون ?على ?إظهار ?مبحث ?الإنسان ?كمقولة ?مستقلة ?في ?وجداننا ?القومي ?بعد ?أن ?غابت ?كبناء ?نفسي ?أو ?كتصور ?وجودي. ?فمهمة ?المفكرين ?الأحرار ?هي ?إظهار ?الإنسان ?الكامل ?الملتزم تجاه نفسه ووطنه. ?لقد ?قامت ?الثورة ?الفرنسية ?بعد ?نضال ?طويل ?من ?أجل ?الإنسان ?منذ ?الإصلاح ?الديني ?في ?القرن ?الخامس ?عشر، ?والنزعة ?الإنسانية ?في ?السادس ?عشر، ?و«الأنا ?أفكر» ?في ?السابع ?عشر ?حتى ?ظهور الإنسان ?المواطن ?في ?القرن الثامن ?عشر. ?ولكننا ?أردنا ?أن ?نثور ?ببناء ?ذهني ?موروث ?لم ?تحدث ?فيه ?ثورات ?مسبقة ?من ?أجل ?الإنسان.
وقيل أيضاً إن ثوراتنا العربية في القرن الماضي، كما أخفقت في قضية الإنسان، أخفقت أيضاً في قضية وسائل الإنتاج. فثوراتنا العربية تلك في النهاية هي ثورات الطبقات المتوسطة، إلا أن الجذر التاريخي لذلك هو أن قضية الاشتراك في وسائل الإنتاج ظلت خارجة عن وعينا القومي منذ أكثر من ألف عام. وقد أصبح وعينا القومي واحدي الطرف. و?لن ?تكون ?وسائل الإنتاج بأيدي المنتجين، ?والمصنع ?لمن ?يعمل ?فيه، ?والجامعة ?لمن ?يتعلم ?فيها ?إلا ?بعمل ?المفكرين ?الأحرار ?وإبرازهم العدالة الاجتماعية ?كقيمة ?في ?وعينا ?القومي، ?وإلا ?ظلت ?ثوراتنا ?طائرة ?في ?الهواء ?لا ?مستقر ?لها ?ولا ?حين.