ينبغي أن نعترف بأن الانتخابات الأخيرة أظهرت لنا الوجه الذي لم نتمنّ أن نراه لأميركا· والحمد لله، لم يكن العرب وحيدين في تلقي المفاجأة، فداخل الولايات المتحدة وخارجها، خصوصاً في أوروبا، كانت مشاعر الإحباط عارمة وواضحة· الجميع كان يرغب في التغيير، ليس في الأشخاص فحسب، وإنما تحديداً في السياسات والخطاب والأساليب والنظرة إلى العالم· هذا التغيير لم يحصل، كان الرهان على الأميركيين أنفسهم، فاختاروا الاستمرارية· هذه هي الديمقراطية، ولابد من قبول نتائجها، إلا أنها ديمقراطية الأميركيين، وهي خارج الولايات المتحدة وكما تتبدى في السياسة الدولية، شيء آخر تماماً·
الآن، ينتقل الرهان إلى إدارة جورج بوش، وطبعاً من قبيل التمنيات، فالاستمرارية من دون تغيير ستعني بالضرورة مزيداً من الأخطاء، وبالتالي مزيداً من الأزمات، سيبقى المحافظون الجدد، إذاً، في قلب الإدارة وفي عقل الرئيس ولسانه، لابد أنهم يعرفون أن انتصارهم، عبر الانتخابات، كان بسبب وجود منافس غير متماسك وغير مقنع، أكثر مما كان بسبب الأخطاء الفظيعة التي ارتكبوها، صحيح أنه يفكرون ويتصرفون انطلاقاً من أيديولوجية باردة الدم والقلب، إلا أنهم يريدون أن ينجحوا وأن يحققوا التغييرات التي ينظرون لها· والنجاح يتطلب شيئاً من البراغماتية، بل الكثير منها، أما الاندفاع الموتور إلى الحروب، واحتقار العالم، وتغيير الأنظمة على الورق، وادخال المنطقة العربية والعالم الإسلامي في دوامة لا تنتهي من القلاقل والاضطرابات المفتعلة، فكل ذلك لا بيني قيماً جديدة لعالم جديد، ولا يضيف إلى قوة أميركا بل يأكل من هيبتها وريادتها الرمزية للعالم الحر·
لا مجال للمخادعة والالتفاف على الحقائق، صحيح أن الأميركيين صوتوا (للرئيس المحارب) لكنهم يرفضون بكل وضوح تحمل تكاليف الحروب· تجربة العراق أثبتت الحاجة إلى إرسال أعداد كبير من القوات، ولأجل ذلك تجري مغازلة أوروبا، ليس فقط من أجل مساهمتها بالعديد من والعدّة وإنما أيضاً كي تشارك في العبء المالي·
في العالم العربي والإسلامي حاولت الحكومات التكيف مع العاطفة التي جيشها بوض ضدّها، ومنذ فوزه الأخير اختار أن يرسل إليها إشارة واضحة بأنه سيواصل العمل لدفعها إلى تبني مسار الحرية والديمقراطية، لكن هذه الحكومات تعلمت من ولايته الأولى أن أميركا تغيرت ولم تعد مؤهلة لتصدير القيم والمبادئ، فهي تهجس فقط بالأمس ووساوسه وبالتالي فلا صعوبة في ارضائها على هذا الصعيد· وفي العادة لا يعني الكثير من الأمن سوى القليل من الحرية، وبالتالي من الديمقراطية، خصوصاً في هذه البلدان، وما على أميركا سوى أن تختار وترضخ للواقع، وهي رضخت فعلاً في أكثر من مكان·
حتى الآن، قد تكون الحرب على الإرهاب حققت عدداً لا يستهان به من النجاحات، لكن العالم لا يزال ينتظر نجاحها الحقيقي في بلدين محددين، أفغانستان والعراق· بعد ثلاث سنوات على إسقاط حكم طالبان شهدت أفغانستان أخيراً انتخابات، لكنها لا تزال تنتظر المساعدات للنهوض بالدولة واستيلاد الجيش وقوى الأمن· مرة أخرى تُخذل أفغانستان وكأن الولايات المتحدة لم تتعظ من التجربة الأولى التي تسببت عملياً بنشوء ثورة الإرهاب، أما العراق فلا يزال الرهان فيه عند بدايته، وما مضى منذ سقوط النظام السابق لا يشجع على التفاؤل·
لا شك أن جزءاً قليلاً من تكاليف حرب العراق، كان يكفي لإنعاش أفغانستان ووضعها على طريق الأمل· ولا شك أن التقصير في الإعداد الجيد لما بعد الاحتلال هو الذي وضع العراق في مستنقع العنف والإرهاب، فإذا أعاد رجال بوش في إدارته الجديدة، الكرّة في التخطيط لحروب جديدة فلابد أنهم سيتوصلون إلى النتائج الكارثية ذاتها، وعندئذ سيصبح التساؤل عما إذا كانوا يعملون لأميركا أم لأجندة إسرائيلية خفية؟