برلمان تقليدي في زمان ثوري!
ها قد وصلنا إلى الخطوة الحاسمة الثالثة في خارطة الطريق. استطعنا أن ننجز الدستور الجديد، وانتقلنا من بعد إلى انتخابات الرئاسة التي فاز فيها الرئيس عبد الفتاح السيسي بمعدلات تقترب من الإجماع الشعبي. وتبقى أمامنا الانتخابات البرلمانية لتكتمل ملامح النظام السياسي الجديد بعد الانقلاب الشعبي الذي قامت به الملايين ضد الحكم الديكتاتوري لجماعة الإخوان المسلمين الإرهابية، وساندته بجسارة القوات المسلحة المصرية.
وليس هناك شك في أننا بعد ثورة 25 يناير نمر بزمان ثوري انقلبت فيه الموازين وتغيرت الخريطة السياسية بصورة جذرية. وقد سقطت القوى السياسية التي استند إليها نظام الرئيس السابق مبارك وفي مقدمتها الحزب الوطني، وصعدت إلى الذروة جماعة الإخوان المسلمين في ظروف تاريخية ملتبسة، اختلطت فيها الثورة بالغوغائية وسادت فيها الانتهازية السياسية التي مارستها كافة الأطراف، وتعثرت المرحلة الانتقالية بعد الخطأ الاستراتيجي القاتل الذي ارتكبه المجلس الأعلى للقوات المسلحة حين أعطى الضوء الأخضر لإجراء الانتخابات قبل وضع الدستور. وفاز فيها الإخوان المسلمون الذين هم أكثر تنظيماً من كل القوى السياسية المصرية، بالإضافة إلى التيار السلفي الذي خرج أعضاؤه من كهوفهم التي عاشوا فيها سنينا ليفاجئوا المجتمع بحزب «النور» الذي حصل على الأكثرية مع الإخوان المسلمين.
وهكذا عبر انتخابات ديمقراطية بالطريقة التقليدية تمت سرقة الثورة جهاراً نهاراً، وشرعت الجماعة الإرهابية في «أخونة الدولة وأسلمة المجتمع»، وكانت بسبيلها إلى هدم كل مؤسسات الدولة المدنية لكى تقيم على أنقاضها دولة دينية استعداداً لاسترداد الحلم المفقود وهو الخلافة الإسلامية.
وقد أدرك الشعب المصري في غالبيته العظمى بفطرته السياسية في الوقت المناسب أن الوطن يضيع وتتغير ملامحه ويفقد هويته الأصلية التي تقوم على الوسطية والتوازن بين العوامل المادية والمعنوية. بحيث تبقى السياسة بالمعنى العلمي للكلمة في منأى من التفسيرات الدينية المتطرفة التي تحاول التأثير على مساراتها. ومن هنا قام الشعب بانقلابه ضد الحكم الديكتاتوري لجماعة «الإخوان المسلمين» التي أرادت أن تقصي كافة القوى السياسية من عملية صنع القرار، وركزت على الشرعية التي اكتسبتها من صندوق الانتخابات، مع أنها مجرد آلية من آليات الديمقراطية على حساب قيمها الأصيلة والتي تتمثل في التداول السلمي للسلطة والحوار والتوافق السياسي.
انتهى عصر «الإخوان المسلمين» الكئيب، والذي لم يستمر لحسن الحظ، إلا عاماً واحداً، وقامت 30 يونيو وأعلنت خارطة الطريق في 3 يوليو.
وها نحن اليوم في مواجهة الانتخابات البرلمانية. والسؤال الجوهري هنا ما هي ملامح المشهد السياسي الراهن في مصر المحروسة؟ وهل تغير شيء جوهري في بنية المجتمع بعد ثورة 25 يناير، وهل شملت رياح التغيير الثقافة المتخلفة التي كانت سائدة في عصر مبارك؟
أول ملمح من ملامح المشهد السياسي الراهن هو التشرذم الشديد بين صفوف النخبة الليبرالية واليسارية. ويشهد على ذلك لعبة التحالفات السياسية المعقدة التي تجرى بين الشخصيات السياسية والأحزاب الحقيقية والأحزاب الوهمية استعداداً للانتخابات البرلمانية. ولا يستطيع أي مراقب سياسي موضوعي أن يعرف لماذا انشق من انشق ولماذا ائتلف من ائتلف. هي أشبه بلعبة الكراسي الموسيقية التي يسودها شعار تحقيق المصلحة الشخصية في مجال الزعامة والوجاهة السياسية حتى لو كان ذلك على حساب المصلحة العامة.
تجرى لعبة التحالفات السياسية في حين أن أكثر من 300 ائتلاف ثوري خارج الميدان. لأن أغلب هذه الائتلافات وهمية وقامت على أسس شخصية وليس لها وجود في الشارع، ومن ثم يمكن القول إنه لن يكون لها تمثيل حقيقي في البرلمان يعبر عن روح الثورة التي أشعلها الشباب.
وتجدر الملاحظة أن كل معارك التحالفات السياسية تدور حول القوائم والتي لا تزيد عن 120 عضواً، غير أن باقي المقاعد من مجمل مقاعد البرلمان والتي تصل إلى ما يربو على 600 مقعد ستكون بالانتخاب الفردي.
والانتخابات الفردية هي الملعب الحقيقي للقوى السياسية التقليدية. وذلك لأنه في هذا المجال يبدو تأثير العصبيات والعائلات الكبرى التي تمرست بتوارث مقاعد البرلمان جيلاً بعد جيل مهما تغيرت اللافتات التي ستنزل في ضوء الانتخابات تحت عناوينها، سواء كان ذلك الاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني.
وهنا في ملعب الانتخابات الفردية سيدخل المال السياسي بشكل مكثف، وسيبرز فيه دور رجال الأعمال الذين يملكون ثروات طائلة تسمح لهم بالإنفاق الانتخابي بكل صوره بما في ذلك شراء الأصوات.
غير أنه بالإضافة إلى هذه البنية الاجتماعية التقليدية التي لا تجعلنا نتفاءل بأن نتيجة الانتخابات ستكون معبرة فعلاً عن الإرادة الشعبية مازلنا نعيش في ظل البنية الثقافية المتخلفة التي سمحت للإخوان المسلمين وللسلفيين من قبل أن يحصلوا على الأغلبية في الانتخابات البرلمانية السابقة.
وهذه البنية الثقافية المختلفة تقوم على أساس بنية تحتية اجتماعية متدنية تكشف عنها المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية، ويكفي أن نشير إلى أن معدل الأمية في مصر هو 26%، وأن 16 مليون مصري يعيشون في العشوائيات، وأن 26 مليون مصري تحت خط الفقر.
تأمل هذه الأرقام المفزعة يجعلنا نفهم بعمق سر تدني الوعي الاجتماعي والثقافي وسهولة غزو عقول المواطنين البسطاء بالدعايات «الإخوانية» والسلفية والتي تؤثر على سلوكهم التصويتي في الانتخابات البرلمانية.
ومعنى ذلك أن مصر معرضة لمخاطر جسيمة تتمثل في احتمال أن يأتي برلمان تقليدي في الزمن الثوري الذي نعيشه، والذي يحتاج إلى برلمان شاب عفّي يعبر حقيقة عن روح 25 يناير و30 يونيو. وحين نتحدث عن الشباب فنحن لا نقصد الإشارة فقط إلى مجرد شريحة عمرية، وإنما نقصد الشباب المزودين بالثقافة والخبرة والذين يملكون رؤية للمستقبل. الشباب النجباء كما أطلق عليهم هذا الوصف الرئيس السيسي في أحد اجتماعاته مع رجال الإعلام.
غير أن هذا البرلمان المنتظر سيكون ولاشك مخيبا للآمال لو جاء بمجموعات من السياسيين التقليديين المحترفين الذين لا يجيدون إلا فن الصفقات السياسية، أو النواب المحترفين الذين تمرسوا بالنجاح في أي انتخابات مستثمرين في ذلك كل فنون التلاعب الانتخابي، وذلك بالإضافة إلى تسرب عناصر سلفية صريحة أو عناصر «إخوانية» مستترة، ومن هنا فإن المسؤولية على عاتق المجتمع السياسي المصري بكل فصائله جسيمة لأن على التيارات السياسية الليبرالية واليسارية والثورية أن تتوحد ليس ذلك فقط ولكن عليها أن تحكم صلتها بالشارع السياسي حتى تضمن تمثيلاً مشرفاً في البرلمان القادم.
كلمة أخيرة، إن نتيجة الانتخابات البرلمانية القادمة ستؤثر تأثيراً بالغاً على مستقبل مصر في العقود القادمة.