قد يقول قائل إن ياسر عرفات هو، بمعنى خاص، "معاوية بن أبي سفيان"... الفلسطيني! والإشارة هنا إلى جانب وحيد ومحدد جوهره كون الزعيم الفلسطيني ما قطع يوماً شعرة وصلته بأي إنسان! فإن شدّها الأخير، أرخى "أبوعمار"، وإن أرخى صاحبنا الشعرة، شد "الختيار"! وأشهد - لمصلحته وبعرفان- أنه كان الحافظ لعلاقتنا التي سبق أن تدهورت لفترة في زمن فلسطيني وعربي رديء! وكم أنا ممتن له على ذلك، فما كان أصعب أن يرحل "أبو عمار" عن هذا العالم، عنّي، ونحن في قطيعة شخصية!.
من المعروف أن الرجال العظام حين يرحلون، موتا أو قتلا أو اغتيالا، يحظون بنظرة خاصة وبتقويم خاص قوامه اختلاط الوقائع والمشاعر: فهم لهم أتباع كثيرون ورافضون كثيرون. محبون كثيرون وكارهون كثيرون. وللرجال العظام إنجازات كبيرة وربما إنجازات عظيمة. ولهم أيضاً أخطاء كبيرة، وربما خطايا، عظيمة. ولذلك، حين يغيبون، يسود الحزن أو تسود الفرحة. يسود المأتم أو يسود الاحتفال! تسود دموع الأسى أو تسود دموع البهجة! لكن شعبية الرجال العظام تبقى، في أسوأ الأحوال، شعبية كاسحة عند شعبهم وأمتهم، مثلما يبقى كرههم عند الأعداء والخصوم واسعاً! وهذا حصاد أكيد – مشرّف- جناه ياسر عرفات يوم رحل!.
والأمر كذلك، ليس غريباً أن يرى كثيرون في ياسر عرفات "آخر الزاهدين" ويرى غيرهم فيه "آخر الجشعين". "أول العطاء" أو "أول الأنانية". "أبرز الملائكة" أو "أبرز الشياطين". أحد "العمالقة" أو أحد "الأقزام". آخر زعماء حركات التحرير الوطني الممتد كفاحه من الألفية السابقة/ من القرن الماضي، أو آخر "زعماء تكريس الاحتلال"! وفي عميق اقتناعي أن وزن عرفات في ميزان التاريخ سيكون أثقل مما يحبه له كارهوه. وأن عرفات – رغم كل شيء- كان وسيبقى موضع حزن خاص من شعبه وأمته وشرفاء العالم لأنه بات "الرمز" لواحد من أعدل نضالات العالم، ولواحدة من أقسى حالات الظلم في التاريخ. ومن هنا التعاطف معه، وقبل ذلك مع قضيته. أوليس هو القائل دوما:"الشعب الفلسطيني أعظم من كل قياداته السابقة والحالية والمستقبلية"، فكنا نداعبه قائلين:"نعم الشعب الفلسطيني أعظم من كل قياداته يا أبا عمار، لكن ركّز معنا على قيادته الحالية"! وكان يوافقنا باسماً أو ضاحكاً.
"القائد لا يغير خيله أثناء المعركة"! تلك العبارة كانت مدخله إلى رفض الإصلاح بمعنى إبعاد من يجب إبعادهم في نظر كثير من الفلسطينيين داخل حركة فتح وخارجها. "في حياتي، لا إصلاح! لمّا أبقى أموت، اعملوا إصلاح"! كان ذلك ما قاله لي حرفياً، مثلما كان ذلك جزءاً من نهج خاص به (قد نقبله أو نرفضه) قوامه أنه يحتاج في معركته إلى الجميع، لكل الناس بمن فيهم السيئون لأن "إخلاصهم" له مضمون بألف صيغة وصيغة! ومع أن وجود مثل هؤلاء أساء لأبي عمار فإنه بقي أكبر –أكبر كثيرا- من أن يختزل شخصه أو دوره أو نهجه بهؤلاء! ولأن "الرمز" في ياسر عرفات بدأ يتآكل، بفعل مواقف قوى نظيفة أو ساقطة، داخلية أو خارجية، كان مهماً أن يأتي رحيل القائد موتا "طبيعيا" أو تسميماً قبل نجاح الإعلام المعادي الكاسح بقتل الرمز فيه! وكان "نجاحه" في هذا "السباق" من حسن طالع الرئيس نفسه، ومن حسن طالع القضية، ومن حسن طالع الشعب (ولا شك أن أبو عمار ذاته كان سيوافق على ذلك) لأنه –في ظني – أحب الرمز في صورته وفي ذكراه أكثر مما أحب نفسه! هذا على الصعيد العام.
أما على الصعيد الخاص، لست متأكداً – والحديث عن رجل عظيم- من أن علينا الاكتفاء في الترحم على الفقيد الكبير والاكتفاء بذكر حسناته! فنحن هنا لا نتحدث عن أبينا أو.... وإنما نتحدث عن شخصية عامة. لذلك، سأسجل باختصار أنني –من واقع معرفة وتجربة معه امتدت من أكتوبر 1968 إلى نوفمبر 2004- لم أشعر تجاه أحد (لا أحد إطلاقا- وأكرر: لا أحد إطلاقا) مثلما شعرت تجاهه. وهنا، تقتضي الأمانة التاريخية أن أقول: إنني مثل غيري من الناس، أحب، لكنني مثل معظم الناس، أستاء من التصرفات ولا أكره. أثمن أو أشجب، أتذاكى أو أتغابى، أجاهر بحقيقة الأصدقاء أو أخفي حقيقتهم، أجامل ملاطفاً أو أنتقد بحدة، لكن –في حالة أبو عمار- تقتضي الأمانة التاريخية الاعتراف بأنني حملت له (حسب الظرف والحالة) كل نوع من أنواع المشاعر والمواقف أعلاه، وإن غلبت عليها كلها اليوم مشاعر الاحترام الكبير لما أنجز ومشاعر التجاوز لكل الأخطاء والخطايا التي لم يكن وحده –من باب الموضوعية والعدل- مسؤولا عنها. فنحن جميعا –معه- مسؤولين. ورغم أنني قد اعترفت له بعدم استطاعتي الاستمرار في العمل الرسمي معه بسبب الاختلاف على النهج في حالات بعينها، لكنني أشهد أنه كان أكثر فلسطيني يجهد نفسه في العمل.
مقدر لي (وأنا اللاجئ، ابن اللاجئ، حفيد اللاجئ، وأب اللاجئ) أن أسمع في الغربة عن "موت" ياسر عرفات وأنا في لاهاي المدينة الأجنبية، عاصمة العدل الإنساني الرسمي حيث كنت أشارك في فعالية تخص القضية التي أعطاها عرفات من عمره أكثر من عطاء أي منا. وفي لحظات الضعف الشخصي، وفي حمأة الغربة، تسمّرت ذاكرتي عند وقائع عام