تواجه الجهود الدولية لتخليص البشرية من وباء شلل الأطفال تحديات كبيرة، أهمها نقص التمويل، وغياب الوعي الصحي والاجتماعي، وانتشار الفقر، وغياب الأمن وسلطة الدولة في بعض البلدان. هذا فيما يتوقع أن يؤدي الفشل في استئصال هذا الداء من معاقله العتيدة إلى ظهور نحو 200 حالة إصابة جديدة خلال العقد المقبل، ما يشكل تهديداً خطيراً ودائماً للصحة العامة، سواء في البلدان المنكوبة بالمرض أو تلك الخالية منه. واستشعاراً بالخطورة التي ينطوي عليها انتشار مرض شلل الأطفال، وتأكيداً لمسؤولية المجتمع الدولي مجتمعاً، ولدوله فرادى، والمنظمات الدولية والإقليمية، ومؤسسات الأعمال.. في تخليص البشرية من معاناته، جاء كتاب «استئصال شلل الأطفال.. الجهود العالمية والشراكة الإماراتية»، والذي نعرضه هنا، ليقدم «حقائق أساسية عن مرض شلل الأطفال»، ويسلط الضوء على «الجهود العالمية لاستئصال مرض شلل الأطفال»، ويتطرق لـ«الدور الإماراتي في دعم الجهود العالمية»، ويتوسع في شرح نماذج «من إنجازات جهود استئصال شلل الأطفال»، ثم يتوقف أخيراً عند بعض الدروس المستفادة والتوصيات المستخلصة. وكما يوضح الكتاب فإن شلل الأطفال يصيب -بالدرجة الأولى- الفئة العمرية دون سن الخامسة، وتؤدي إصابة واحدة من أصل 200 حالة إلى شلل مُقعد. ويلاقي نحو 10% من المصابين بالشلل حتفهم؛ بسبب توقف عضلات التنفس عن أداء وظائفها. وقد انخفضت حالات الإصابة بالشلل منذ إطلاق المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال عام 1988، بنسبة تفوق 99%، نتيجة الجهود العالمية لاستئصال المرض الذي لم يعد يستوطن في عام 2012 إلا ثلاثة بلدان، هي أفغانستان ونيجيريا وباكستان، بعدما كان يستوطن أكثر من 125 بلداً عام 1988. لكنْ طالما أن طفلا واحداً مصاباً بالعدوى، فإن جميع الأطفال في كل البلدان معرضون لخطر الإصابة أيضاً. وتُعد الجهود العالمية لاستئصال هذا الداء أكبر شــراكة بين القطاعين العام والخاص في مجال الصحة العامة، وأكبر تعبئة للناس في أوقات السلم على الإطلاق، وتشمل هذه الشــراكة منظمات شــريكة راعية؛ هي منظمة الصحة العالمية، ومنظمة «الروتاري» الدولية، و«المراكز الأميركية للسيطرة على الأمراض والوقاية منها»، وصندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة «اليونيسف»، علاوة على حكومات الدول المتضـررة، والحكومات المانحة، ومؤسسات القطاع الخاص، والمصارف الإنمائية، ومنظمات العمل الإنساني، والمجتمع المدني، والهيئات الشــريكة، وما يزيد على عشـرين مليون متطوّع. ولتعزيز الجهود العالمية ومواجهة التحديات، جاءت استضافة دولة الإمارات العربية المتحدة لـ«القمة العالمية الأولى للقاحات والمبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال في أبوظبي -إبريل 2013»، والتي استعرضت خطة شاملة لمدة ست سنوات، تستهدف استئصال جميع أنماط مرض شلل الأطفال، سواء الحالات التي تعود للإصابة بـ«فيروس شلل الأطفال البري»، الذي يحدث بصورة طبيعية من دون تدخل بشـري، أو تلك التي ترتبط بالفيروس الـمُشتق من اللقاح المضاد نفسه. وقد تم إعداد الخطة الاستراتيجية لاستئصال شلل الأطفال للأعوام ‏ 2013-2018من طرف المبادرة العالمية لاستئصال شلل الأطفال، بالتشاور مع مجموعة واسعة من الجهات المعنية. وتتضمن الخطة، الدروس المستفادة من نجاح الهند في التخلص كلياً من شلل الأطفال في يناير 2011، والمعارف المتطورة حول مخاطر انتشار فيروسات شلل الأطفال المشتقة من اللقاح. وهذا إكمالا لخطط عمل الطوارئ المطبقة منذ عام 2012 في البلدان الموبوءة بشلل الأطفال، أي أفغانستان وباكستان ونيجيريا، بما في ذلك الأساليب المتبعة لتطعيم الأطفال في المناطق غير الآمنة. وبسبب التزام دولة الإمارات العربية المتحدة، بالاستمرار في كونها حلقة الوصل للمبادرات الإنسانية الدولية، عُقدت هذه القمة بشــراكة عالمية بين كل من الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، والأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ومؤسِّس شــركة «مايكروسفت» الأميركية بيل جيتس، الرئيس المشارك لمؤسسة «بيل وميلندا جيتس». وجاء إسهام الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد، بتقديم مبلغ 440 مليون درهم إماراتي، خطوة أساسـية على طريق تحقيق هدف القمة المتمثل في «عالم خالٍ من شلل الأطفال». ويعد ذلك أحد الإسهامات الكثيرة لسموه في مجال دعم اللقاحات المنقذة لحياة الأطفال في جميع أنحاء العالم. أما الإسهام الثاني فتمثل في إطلاق حملة إنسانية لتطعيم 20 ألف طفل باكستاني ضد الحصبة وشلل الأطفال عام 2012، وتضمن أيضاً برنامجاً لتوعية السكان بخطورة الأمراض والأوبئة، وتشجيعهم وحثهم على الاستفادة من الحملة لتطعيم أبنائهم ووقايتهم من الإصابة بهذه الأمراض. وجاء الإسهام الثالث إثر إعلان كل من الفريق أول سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان وبيل جيتس عام 2011 عن شــراكة استراتيجية تم خلالها تقديم 100 مليون دولار مناصفة بين الطرفين؛ لشــراء اللقاحات لأطفال أفغانستان وباكستان. وأسفرت هذه الشــراكة عن تطعيم خمسة ملايين طفل في أفغانستان ضد ستة أمراض قاتلة، وإيصال اللقاحات إلى مليون طفل في البلدين، وتخصيص مبلغ 66 مليون دولار لإيصال لقاحَي «المكورات الرئوية» و«اللقاح الخماسي التكافؤ» إلى أفغانستان، وإنفاق 34 مليون دولار لتقديم 85 مليون جرعة لقاح لأطفال البلدين. وكان قادة العالم ورجال العمل الخيري، قد أعربوا عن ثقتهم بالخطة من خلال التعهد بتقديم ثلاثة أرباع التكاليف المتوقعة، وقدرها 5.5 مليار دولار على مدى ست سنوات. كما دعوا جهات مانحة إضافية إلى تقديم نحو 1.5 مليار دولار ضرورية لضمان القضاء على شلل الأطفال. وإلى ذلك يستعرض الكتاب بعض الإسهامات المبكرة التي قدمتها دولة الإمارات العربية المتحدة لدعم الاستراتيجية العالمية لاستئصال شلل الأطفال في بعض دول العالم، والتي كانت محورية وذات أهمية بالغة؛ نظراً لكونها جاءت في وقت شحَّت فيه الموارد، ومن ذلك إسهام الدولة في دعم برنامج استئصال شلل الأطفال في باكستان بمبلغ مليون دولار في عامي 1996 و2003، وكذلك إسهامها عام 2004 بمبلغ 200 ألف دولار قدّمها الهلال الأحمر الإماراتي لبرنامج استئصال شلل الأطفال في العراق. كما تتمثل بعض إسهامات الإمارات في القيام بتنفيذ الاستراتيجيات العالمية بمنتهى الشمولية والدقة؛ ما جعلها مثلا يُحتذى في الإقليم، وبشهادة منظمة الصحة العالمية لإقليم شـرق المتوسط. وقد زادت، في الآونة الأخيرة، أهمية هذه الجهود والمبادرات؛ بسبب ما تشهده بعض مناطق العالم من نزاعات وصراعات مسلحة، فضلا عن انهيار دول وفشلها. وهنا، نشير إلى ما أعلنته الأمم المتحدة مؤخراً، من اكتشاف إصابات جديدة بشلل الأطفال في سوريا؛ نتيجة تراجع التغطية باللقاحات جرّاء الحرب الأهلية الدائرة هناك؛ الأمر الذي يهدد الدول المجاورة ودولا أخرى أبعد، تعد خالية من المرض منذ عشرات السنين. وهذا ما دعا الأمم المتحدة إلى إطلاق حملة واسعة لتحصين 22 مليون طفل في سوريا وسبع دول أخرى في المنطقة، في ديسمبر الماضي. ويؤكد الكتاب أن الهدف الذي ينبغي تمثله عالمياً في التعاطي مع مرض شلل الأطفال، هو تطعيم أطفال العالم كافة من دون استثناء، وضمان عالم خالٍ من هذا المرض. ويرى أن أهم الدروس المستفادة من الجهود العالمية والإقليمية والمحلية في هذا المجال، هو أن التخلص من شلل الأطفال لا يعني بالضـرورة التخلص من خطر الإصابة به؛ إذ يظل خطر الفيروس الوافد من مناطق موبوءة إلى أخرى سليمة محل استهانة أحياناً؛ بسبب عوامل عدة منها: قلة الاهتمام بالمشكلة عندما تكون نادرة الحدوث، ووجود جيوب للتغطية المنخفضة بالتطعيم، وسهولة الانتقال والسفر بين معظم دول العالم، إضافة إلى الحروب والصـراعات التي أضعفت خدمات الرعاية الصحية، بما في ذلك مكافحة الأمراض السارية، وبرامج التحصين الموسع، ومنها التحصين ضد شلل الأطفال. ويبقى أن هدف القضاء على شلل الأطفال يتطلب من مختلف الدول الاهتمام بالأطفال، وجعلهم في قمة الأولويات الوطنية، وخاصة في فترات الأزمات الاقتصادية، والكوارث الطبيعية، وعند تطبيق برامج التقشف. محمد ولد المنى ----- الكتاب: استئصال شلل الأطفال.. الجهود العالمية والشراكة الإماراتية الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2014