في شهر مارس 2012، فاز إسماعيل إبراهيم البلوشي وخميس أحمد الحمادي وأحمد عبيد الشامسي، وهم طلاب بالتعليم الأساسي بإحدى المدارس الحكومية، بلقب «الفرسان الصغار»، وذلك في مسابقة بالعاصمة البريطانية لندن، تحمل اسم «التحدي العلمي الكبير»، شارك فيها طلاب بريطانيون إلى جانب طلاب من دول عربية أخرى. وكان المشروع الذي نال عنه الطلاب الثلاثة هذا التكريم هو ابتكار أجهزة تفصل الرطوبة عن الهواء وتحولها إلى مياه عذبة، وتستخدم الطاقة الشمسية في تحويل مياه البحر إلى مياه عذبة بأقل تكلفة. ليس الإنجاز العلمي وحده هو ما لفت نظر لجنة التحكيم البريطانية في أداء طلاب الإمارات، بل إن الأسلوب الذي عرضوا به مشروعهم كان مثار إعجاب اللجنة أيضاً، حيث بدت ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم الواضحة على عرض مشروعهم العلمي عرضاً محكماً ومترابطاً بلغة إنجليزية سليمة، استحقت تنويهاً خاصاً من أعضاء اللجنة. يقودنا تأمل هذا الخبر – وهو مجرد نموذج – إلى عدد من الملاحظات التي أعتقد أنه ينبغي التوقف عندها ملياً، ومنها طبيعة المسابقة التي تركز على الجانب العلمي، لا في صورته النظرية، بل في صورة تحويل القواعد والنظريات العلمية إلى ابتكارات واختراعات تسهم في تسهيل حياة البشر وتقدمهم ورخائهم، وهو ما يعكس فلسفة جديدة للتعليم تعبر عن نفسها بوضوح في دولة الإمارات العربية المتحدة. ويمكن أن نتوقف أيضاً عند طبيعة الابتكار نفسه، وهو محاولة إيجاد حلول لمشكلة نقص المياه، وهي المشكلة الملحة التي تشكل «هماً وطنياً» تُبذل جهود ضخمة لمواجهته. ولهذا الاختيار وجهان مهمان، أولهما ارتباط الابتكار العلمي بالحاجات المحلية، بما يعني قدرة النظام التعليمي على الخروج من أسر كونه معلومات صماء يستظهرها الطلاب ويفرغونها في أوراق الامتحانات، إلى كونه تفاعلاً حياً مع مشكلات الواقع التي يعايشها الطلاب كل يوم. والوجه الثاني هو حضور الأولويات الوطنية في ذهن الطلاب، واختيارهم التعبير عن مشاعر الولاء والانتماء إلى الوطن بشكل عملي، يسهم في رخائه وتقدمه. ويجب أن نتوقف كذلك عند قدرة التعليم الإماراتي على بناء الشخصية الواثقة بذاتها، والمؤمنة بقدراتها، والتي تمتلك ناصية التعبير الواضح والسلس والمترابط عن أفكارها بلغة متماسكة وصحيحة، تعكس نضج العقل وسيطرته على ما يعرض من أفكار ومعلومات، كما هو معروف ـ لدى المختصين ـ من علاقة اللغة بالفكر. ربما نستطيع، قياساً على هذا النموذج وغيره، أن نقول إن التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة على المسار الصحيح، وإننا بدأنا الآن نشهد ثماراً طيبة لجهود ضخمة اعتبرت تطوير التعليم على رأس الأولويات الوطنية، وحشدت له الطاقات والجهود والموارد اللازمة لتكون الكوادر البشرية الكفؤة الأساس المكين لبناء اقتصاد المعرفة واستدامة التجربة التنموية. وكان مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية من بين المؤسسات الوطنية التي لعبت دوراً مهما في دفع التعليم إلى قائمة الاهتمامات الوطنية. فقد عقد يومي 23 و24 سبتمبر 2014، مؤتمره الخامس للتعليم، وهي الفعالية التي أصبحت منتدى لعرض أفضل الرؤى والتوجهات والممارسات فيما يخص العملية التعليمية من مختلف جوانبها، وإثارة نقاش مجتمعي واسع حول ما تشهده جلسات المؤتمر من أفكار ونقاشات وتجارب ووجهات نظر. كان عنوان المؤتمر الرابع، الذي انعقد العام الماضي، هو «مستقبل التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة: الابتكار وإنتاج المعرفة»، وعنوان المؤتمر الثالث الذي انعقد العام قبل الماضي هو «تكنولوجيا المعلومات ومستقبل التعليم في دولة الإمارات العربية المتحدة». ويمكننا بسهولة أن نلاحظ الروابط بين عناوين المؤتمرين، وتلك المعاني التي أشرنا إليها في خبر الطلاب الثلاثة، وأن ندرك وراء ذلك ما تتسم به النظرة إلى العملية التعليمية في الدولة من تناسق وانسجام، فالرؤية المستقبلية حاضرة، والتقنيات العالية، والابتكار، وإنتاج المعرفة، وتوظيف التكنولوجيا لخدمة التعليم والمجتمع، وهي نفسها المعاني والقيم التي تحولت إلى واقع وممارسة. المؤتمر الخامس للمركز اختار الركن الأهم من أركان العملية التعليمية، وهو المعلم، إلى جانب قيمة تعليمية وحياتية أصبحت شعاراً للدولة، وهي التميز، ليضمهما عنوان واحد هو: «التعليم والمعلم: خلق ثقافة التميز في المدارس». وفي إطار من الصراحة والدقة الأكاديمية ومواجهة المشكلات بشجاعة من أجل التغلب عليها عُقدت جلسات المؤتمر. كان الحديث عن الإنجازات حاضراً، حيث أشارت كلمة معالي المهندس حسن الحمادي، وزير التربية والتعليم، في كلمة افتتاحية للمؤتمر، إلى بلوغ الدولة المركز الثالث عشر في مجال جودة التعليم على مستوى العالم، ووصول صافي معدل الالتحاق بالعملية التعليمية إلى نحو 98%، وهو معدل يستحق الفخر به، لكن الحديث عن المشكلات والمعوقات كان حاضراً بقوة، باعتبار أن تشخيص المشكلات وتحديدها وتحليل أسبابها هو أول خطوات حلها والتغلب عليها. أشار المحاضرون إلى نقص التأهيل التربوي لدى المعلمين، وتواضع العملية التدريسية في نسبة لا يُستهان بها من المدارس، غير أن ما يلفت النظر في برنامج المؤتمر هو تخصيص جزء لا يستهان به من فعالياته لتجارب مختلفة في التطوير المهني والتدريب المستمر للمعلمين لسد الفجوات في أدائهم ورفع مستواهم بصورة مستمرة. وحرص المؤتمر على عرض نماذج مختلفة لعمليات تدريب المعلمين، في دول خليجية مثل المملكة العربية السعودية، أو في دول عربية مثل المملكة الأردنية الهاشمية، وكذلك في دول ذات تجارب متقدمة في التعليم مثل المملكة المتحدة وفنلندا وكوريا الجنوبية. كما حظيت تجارب تطوير المعلمين في دولة الإمارات العربية المتحدة بالاهتمام أيضاً، مثل برنامج «مساعد معلم» وهو جزء من برنامج «كياني» التابع لـ«مؤسسة الإمارات». الأمر الجيد فيما يتعلق بالمشكلات المطروحة في المؤتمر، أن من اعتادوا حضور هذه المؤتمرات منذ سنوات طويلة، يلاحظون أن وتيرة هذه المشكلات تتراجع، وأن ما كان يبدو لنا قبل نحو خمسة عشر عاماً غابة من المشكلات المتداخلة لا يبدو أفق لحلها يتضاءل سنة بعد سنة، بل إن المشكلات المطروحة الآن تشهد عملاً جاداً وواثقاً يجعلنا متفائلين بأن التغلب عليها لم يعد بعيداً عن متناول أيدينا، على الرغم من أن طبيعة العملية التعليمية تجعلها تطرح إشكاليات ومعضلات جديدة في كل يوم. بقيت مشكلة مؤرقة في هذا المدى المفتوح من الإنجازات والنجاحات، وهي التحدي الحقيقي الذي يجب أن تُحشد الجهود من أجله: مشكلة المدرس المواطن. مؤشراتنا إيجابية دائماً، إلا في هذه النقطة التي قرع المؤتمر أجراس إنذار قوية بشأنها، ونالت قسطاً وافراً من الحوارات والنقاشات التي شهدتها جلسات المؤتمر وأروقته. فالمواطنون الذكور يتجنبون الالتحاق بحقل التعليم، ومن يلتحقون به سرعان ما يغادرونه إلى وظائف إدارية أو إلى خارج المجال كله. والمؤسسات الجامعية المختصة بتأهيل المعلمين وتدريبهم لا تكاد تستقبل مواطنين ذكوراً، وكثير من الأقسام لا يدخلها غير المواطنات. إن وجود المعلم المواطن ضرورة تربوية وتعليمية واجتماعية، تتعلق بصميم الأمن الوطني، وكما أوضح المؤتمر، فإن هناك صعوبات جمة تتسبب في هذه المشكلة، منها نظرة المجتمع غير الإيجابية إلى المعلم، ونقص المميزات المادية قياساً إلى قطاعات أخرى، ومشاق المهنة ذاتها بدنياً ونفسياً بالمقارنة بما يحصل عليه المعلمون من مميزات. وهذه كلها مشكلات جدية يجب العمل على تفكيكها وإيجاد حلول لها. المهمة ليست سهلة بالقطع، وهي تحتاج إلى تضافر جهود المؤسسات المعنية جميعها، والبدء في وضع خطة واضحة الخطوات لحلها.