صدر في يوم 9 من شهر أكتوبر الجاري كتاب جديد للصحفيين الفرنسيين الشهيرين كريستيان شينو وجورج مالبرينو، يتتبعان فيه ثنايا وخفايا علاقات باريس ودمشق، غائصين في دهاليز هذه العلاقات من خلال تحقيق معمق موثق، ورصد دقيق لموجّهات الدبلوماسية الفرنسية تجاه النظام السوري طيلة العقود الأربعة الماضية. وقد جاء الكتاب تحت عنوان قد يبدو غامضاً: «مسارات دمشق»، غير أن العنوان الفرعي، وربما الحقيقي، يبدد بسرعة هذا الغموض: «الملف الأسود للعلاقة الفرنسية- السورية»! ولعل مما يزيد من قيمة هذا الكتاب خبرة مؤلفيه، ومستوى المصادر التي ينقلان عنها المعلومات. ومؤلفا الكتاب يعتبران من أكثر الصحفيين الفرنسيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط، والأول منهما «شينو» يعمل كبير المعلقين في «إذاعة فرنسا الدولية» في حين أن «مالبرينو» كبير المعلقين في صحيفة لوفيغارو. وقد سبق لهذين الصحفيين أن عاشا تجربة اختطاف مريرة على يد إحدى الجماعات المسلحة في العراق خلال عام 2004، كما أصدرا من قبل عدة كتب ذائعة الصيت عن المنطقة من أشهرها كتابهما: «عراق صدام حسين» في 2003، و«مذكرات رهائن».. كما ينقلان أيضاً في هذا الكتاب الجديد عن مصادر عالية المستوى أو في قمة السلطة إضافة إلى بعض أبرز صناع القرار في كلا البلدين. وبين دفتي هذا الكتاب الواقع في 396 صفحة يعود المؤلفان مع تاريخ العلاقات الفرنسية- الروسية عقوداً أربعة إلى الوراء مبرزين التحولات التي عرفتها خلال هذه الفترة، مع تركيز خاص على أوجه المفارقة والتناقض بين السياسات المعلنة والسياسات الواقعية، أو بكلمة أدق المواقف المبدئية وسياسات الأمر الواقع الخفية، حيث راوحت علاقات باريس ودمشق طيلة عهد الأسد الأب والابن بين الاحتقان والاحتكاك حيناً، وخاصة في لبنان، والانفتاح والمتانة، حيناً آخر، بقدرما عرفت أكثر من حالة صِدام وصراع وشهر عسل وتعاون مثبّت موصوف وخلاف محتدم مكشوف.. الخ. وفي كل الأحوال كانت الأقوال تسير في اتجاه والأفعال في اتجاه آخر، بحسب الدورات والإرادات السياسية والمصالح والمواسم الدورية. وعلى سبيل المثال طيلة هذه الأربعين سنة ظل التعاون الأمني قائماً بين باريس ودمشق، واستمرت قنوات التواصل والتعاون تعمل علناً، أو من تحت الطاولة بكيفية عصية على الاعتراف، ولا تخلو من فصام وأعراض شيزوفرينية! ويذهب «شينو» و«مالبرينو» إلى أن القادة الفرنسيين انطلقوا من تقديرات غير دقيقة في حكمهم على مدى صلابة نظام دمشق وقدرته على الاستمرار، على رغم كونهم لا يجهلون أبداً مدى خشونته وقسوته. وقد اتسمت مواقف الرؤساء الفرنسيين المتعاقبين خلال العقود الأربعة الماضية تجاه ذلك النظام بخليط غريب من التفكير الرغائبي والعاطفي والارتجال، وهو ما تكشّف في النهاية عن حالة الانسداد التي انتهت إليها الأمور الآن مع قطيعة ما بعد مآسي الأزمة السورية التي أوغل فيها نظام دمشق في ممارسة العنف والعسف بحق المدنيين. ويخبرنا الكاتبان مثلاً ضمن رصدهما لوقائع التناقض في الموقف الفرنسي تجاه دمشق أن الرئيس الأسبق شيراك كان يتميز غيظاً على الأسد بعد اغتيال صديقه رفيق الحريري في 2005، وظل يؤكد أن أيام الديكتاتورية السورية باتت معدودة، ولكن المفارقة أن فرنسا وفرت للأسد أيضاً خلال تلك الفترة في ظروف بالغة السرية طائرتي هليكوبتر من نوع «دوفين» في 2006 ووفرت لمحيطه نظام اتصالات مؤمّناً كذلك، بل إنه كان قد أقام منذ نهاية التسعينيات هاتفاً أحمر للتواصل مع الأسد والحريري معاً. وقد وقع ساركوزي وأولاند في أخطاء مماثلة، وظلا يرددان أن أيام نظام دمشق في حكم المنتهية، متعامين عن قدرته على البقاء في السلطة بالحديد والنار. وقد اتسم تعامل فرنسا مع الأزمة الراهنة، من وجهة نظر الكاتبين، بكثير من عدم الفعالية، وعدم تطابق المواقف والمزاج العام بين الدبلوماسية والأجهزة الاستخبارية. ولعل أحد أهم عناصر الجدة في هذا الكتاب هو ذلك المتعلق بالصراع الداخلي الفرنسي- الفرنسي تجاه الملف السوري، بين الهواة ودعاة تصفية الحساب، مرة واحدة، وهنا يفيض في ذكر أسماء الدبلوماسيين وشهاداتهم على الواقع والوقائع، مع إبراز خطوط واصطفافات الساسة الفرنسيين داخل أو خارج التيار الرئيس في باريس، في خلافاتهم العميقة وسجالاتهم العقيمة، وكذلك صراع فروع أجهزة الاستخبارات الداخلية والخارجية، واستمرار شره الشركات والأعمال التجارية، في كل الأحوال، وهنا يذكر المؤلفان مثلاً أن شركة فرنسية مدت نفقاً من القصر الرئاسي إلى مقر سكن بشار الأسد في دمشق بعد تفجر الثورة الحالية، في مؤشر آخر على التفاعل بين السياسات والمصالح والأعمال التجارية، وأن الخطابة المثالية والأخلاقية الأخرى ما هي سوى استمرار للسياسات المصلحية الانتهازية، وإن بوسائل وعبارات أخرى. حسن ولد المختار الكتاب: مسارات دمشق المؤلفان: كريستيان شينو وجورج مالبرينو الناشر: لافون تاريخ النشر: 2014