لم يعد أحد يتحدث عن السلام في سوريا اليوم، فقد صارت الحروب والتسابق للمشاركة في التحالف الدولي ضد «داعش» أولى وأهم من الحديث عن الحلول السياسية للقضية السورية، ولم يعد مؤرقاً لقادة المجتمع الدولي ما يعانيه ملايين السوريين المشردين الذين يدخلون شتاءهم الرابع وهم في أسوأ حالة إنسانية مرت بها البشرية. لقد بدأت رياح الخريف تقتلع الخيام، وتدفقت السيول لتجرف بقايا ملاذات آمنة لمن وجدوا أنفسهم في العراء، وعلى رغم ازدياد عدد اللاجئين والنازحين جراء تصاعد القصف خفضت الدول المانحة مساعداتها وأعلنت الجهات الراعية أن نحو نصف مليون سوري سيحرمون من المعونة، وسيواجهون مجاعة كارثية فضلاً عن احتمال انتشار أمراض خطيرة، قد تتحول إلى أوبئة تزيد الوضع سوءاً وخطراً. ولقد أتيح لي أن أتعرف قليلاً إلى الوضع الصحي المفجع الذي تعيشه بعض المناطق السورية الساخنة من خلال لقاءات مع أطباء عملوا في المشافي الميدانية في ظروف يصعب تخيل فظاعتها، كما أن الروايات عن أحوال المرضى والجرحى والمصابين تكاد لا تصدق لغرابة الوحشية التي تعرضوا لها بعد أن بدأت حاويات القمامة تنهمر على الناس إضافة إلى البراميل المعبأة بالقنابل والمتفجرات والشظايا التي تنشر الموت حيث تقع وقد تم تطوير هذه البراميل فباتت أشد فتكاً بالمواطنين. وينبئنا أصدقاء سوريا بأن هذا الوضع الوحشي سيستمر سنين طويلة لأن الحملة الدولية الراهنة ستتفرغ للقضاء على الإرهاب، وقد باتت غير مهتمة جدياً بمعاناة الشعب السوري. ولقد تحركت تركيا نحو عمل يبدو جاداً، ولكن غالبية السوريين لا يريدون أن تتدخل تركيا عسكرياً فقد يزيد تدخلها البري تعقيد الوضع وقد يأتي بنتائج غير متوقعة يدفع ثمنها اللاجئون السوريون الذين تضيق بهم المعارضة التركية وتستخدم قضيتهم ضد خصومها السياسيين، على رغم حاجة تركيا إلى حماية نفسها من تمدد «داعش» وتدفق التنظيمات الإرهابية إليها. ويبدو مثيراً أن يتحول «داعش» إلى لغز لا أحد يفك أسراره، ولا أحد يفهم سر الحاجة إلى مشاركة أربعين دولة للقضاء على هذا التنظيم الذي كبر ونما أمام أعين الجميع. وليس سراً أن السوريين باتوا يائسين من مواقف كثير من الدول التي أعلنت أنها من أصدقاء سوريا لكن تصرفاتها لا تقدم مصداقية لهذه الصداقة. وقد بتنا نحتاج إلى تفسير عسكري يقنعنا بضرورة أن تستمر الحرب على «داعش» سنين طويلة، والسوريون في كل مواقع شتاتهم يتساءلون عن سر بطء العالم في السعي الجاد لإيجاد حلول سياسية تواكب الحرب على الإرهاب، وباتوا يخشون أن يكون هدف إطالة أمد الحرب على الإرهاب تفريغ ما تبقى من خزائن العرب لتغطية النفقات والتكاليف الباهظة، حتى إن أحدهم أجرى حساباً افتراضياً للتكلفة فجاءت النتيجة أن تكلفة قتل «داعشي» واحد قد تصل إلى نحو عشرة ملايين دولار، مما دعا بعض المحللين إلى رؤية ما يحدث حالة تعمية تخفي أسراراً ربما كان التقسيم أخطرها. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة خرائط كثيرة يبدو أنها تمهد للتقسيم، ولم يكن مقنعاً القول إن إرهاب «داعش» مثلاً يشكل خطراً على الأمن القومي الأميركي، فالخطر الحقيقي يهدد سوريا التي ضيعت التنظيمات الدينية المتطرفة مسار ثورتها الشعبية العفوية وأدخلتها في نفق مظلم. وفي زيارتي الراهنة للولايات المتحدة وطوافي في بعض مدنها الشهيرة لم ألحظ أي أثر يشير إلى أن البلاد الأميركية الشاسعة تخوض حرباً في الشرق الأوسط، ولم أرَ أي قلق شعبي من إرهاب إسلامي عدا الترويج الإعلامي المفتعل، ولا يتردد كثير من المحللين في اتهام النظام السوري بدعم نمو «داعش»، ونحن نرتاب في كل من رأوا نمو «داعش» وأتاحوا له فرصة نمو قوته وهم يدركون أخطاره القادمة. لقد وصلت أعداد ضحايا الإرهاب الرسمي في سوريا إلى أكثر من مليون ضحية بين مقتول ومفقود ومعاق وجريح، فضلاً عن المعتقلين الذين هم مشاريع قتلى قيد التعذيب، وفوق ذلك الانهيار الاقتصادي الذي جعل الغالبية العظمى تعيش ترقباً للموت جوعاً وعطشاً. إن أهم ما نحتاج إليه هو حل سياسي أو مبادرة دولية تبث الحياة في مبادئ جنيف التي نراها وثيقة مهمة في رؤية الحل. أما المبادرات الشعبية أو غير الدولية فقد باتت مستهلكة وغير فاعلة، بما في ذلك المبادرة التي سبق أن أطلقتها قبل شهرين ونيف على هذه الصفحة من «وجهات نظر» وكنت دعوت إلى مؤتمر عام يسمو فوق المعارضة والنظام، ويجمع كل الفرقاء تحت يافطة الوطن، وإلى الانتهاء من مطالب حماية الأقليات المفتعلة وضمانة حقوقها. فهذه ألاعيب هدفها الوصول إلى عقد اجتماعي ينهي حالة المواطنة التي نريد أن تكون هي المعيار، ويجعل المحاصصة الطائفية بديلاً يؤسس لشروخ اجتماعية تقسم المجتمع السوري وتنهي أملنا باستعادة الوحدة الوطنية، ويؤسفني أنني لم أجد أية استجابة عملية. إن شبح التقسيم يخيف كل السوريين، وينذر بإطالة أمد الصراعات وتحول مساراتها، وسيكون هذا التوجه مقتلاً لأية طائفة تطالب به، وإذا كان السوريون قد ثاروا وقدموا كل هذه التضحيات احتجاجاً على تحول دولتهم إلى دولة تسيطر عليها مجموعة متسلطة تطاولت على حريتهم وأهانت كرامتهم، فإنهم سيقدمون المزيد من التضحيات الجليلة كي لا يخسروا سوريا الوطن الذي يحتضن الجميع. فأما التطرف الذي ظهر فقد كان مصنوعاً لإغراق الثورة بالفوضى وتعمية الأهداف النبيلة التي طالب بها الشعب، وسيستمر إصراره عليها، ولن يسمح بتقسيم وطنه وكل ما يحدث الآن هو انعكاسات للظرف الاستثنائي الذي يعيشه السوريون ويسهم في تعقيده الراغبون برؤية سوريا ضعيفة مدمرة. إننا نطلب من الولايات المتحدة وهي تخوض حرباً ضد الإرهاب ألا تزيد مأساة السوريين تعقيداً عبر هذه الحرب التي بات المدنيون وشعبنا المنكوب يدفع ثمنها، وندرك أن بوسع التحالف إنهاء تنامي القوى الإرهابية على الأرض السورية بطرائق أقل تكلفة وأقل خطراً حيث يكفي أن توقف الدعم الذي تتلقاه هذه التنظيمات وقد كان يحدث تحت السمع والبصر، ويؤسفنا أن نرى السوريين خارج دائرة القرار الذي بات دولياً، ونطالب بأن يكونوا هم أصحاب القرار بشأن مستقبل وطنهم وتقرير مصيرهم، ونرجو أن يقوم أصدقاء سوريا الدوليون، بتقويم موقفهم ومراجعة ما تم إنجازه.