إن أزمة الحرية والديمقراطية في عالمنا العربي الراهن هي أولى الأزمات وسببها جميعاً. وقد ضاعت كل محاولاتنا الأخيرة هباءً من أجل تغيير الهياكل الاجتماعية والأبنية الاقتصادية، وذلك لأن قضية الحرية والديمقراطية لم تحل بعد، وهي الأساس النفسي والسلوكي الذي يسمح بالتغيير الجذري لمجتمعاتنا أو يقف حجر عثرة أمامه. لقد حاول «الضباط الأحرار» في بعض البلدان العربية على مدى نصف قرن من الزمن إحداث تغيرات جذرية في نظمنا الاجتماعية والسياسية: التحرر من الاستعمار، تأسيس القطاع العام، توجيه الدولة للنشاط الاقتصادي.. إلخ. ولكنهم خلقوا أزمة الحرية والديمقراطية، فسيطر الرأي الواحد، وأصبح فكرنا القومي كله تبريرياً إعلامياً مؤيداً للسلطة القائمة آنذاك. فلعب «الضباط الأحرار» دور المفكرين الأحرار، فوضعوا العربة أمام الحصان! وأصبح التناقض واضحاً بين فترة ما قبل الثورات العربية التي سادتها الليبرالية في الاقتصاد وفي الفكر: مجتمعات رأسمالية حليفة للغرب وتفي بحرية الفكر والرأي والتعبير، وفترة ما بعد الثورات العربية التي سادت الاشتراكية في الاقتصاد وفي الفكر: مجتمعات اشتراكية مناهضة للاستعمار ولكنها مخنوقة الفكر ليس لها الحق في التعبير عن آرائها. إن قضية الحرية والديمقراطية في البلاد العربية التي عرفت نظم «الضباط الأحرار» هي الشرط الأساسي لكل تحديث، والتحديث هو الشرط الأول لأي تغيير في الأبنية الاجتماعية، فنحن نعيش في مجتمعات متخلفة ولا يمكن تغيير أبنيتها إلا من خلال تجاوز قضية التخلف. فما أسهل تغيير نظام اقتصادي رأسمالي إلى نظام اشتراكي والتخلف قائم في النظامين في صورة ديكتاتورية النظام أو فوقيته أي بنائه من السلطة. فإحداث التقدم في المجتمعات المتخلفة شرط أساسي سابق على تغيير أبنيتها الاجتماعية. ومن مظاهر التخلف في تلك البلدان أولوية القمة على القاعدة، والسلطة على الشعب، والحكم على المحكومين، والزعيم على المرؤوسين، فنحن كنا آنذاك نعيش في مجتمعات أبوية. ولا يمكن أن تتغير الأبنية الاجتماعية إلا عندما يكون للقاعدة حق مناقشة القمة وطرح حقوقها عليها. إن أزمة الحرية والديمقراطية في مجتمعاتنا آنذاك إنما ترجع إلى المرحلة التاريخية التي تمر بها، مرحلة النهضة بعد مرحلتي الإحياء والتحديث. فقد مر الغرب بمرحلة الإحياء في القرن الرابع عشر، وبمرحلة الإصلاح الديني في الخامس عشر، ثم وصل إلى مرحلة النهضة في السادس عشر. وتتمثل هذه المرحلة في القدرة على نقد الموروث، وإعمال العقل، والاعتماد على الجهد الإنساني وحده، واكتشاف العالم الخارجي، واعتبار الطبيعة مصدراً من مصادر العلم والمعرفة والأخلاق والقانون. ثم ظهرت العقلانية في القرن السابع عشر من أجل سيطرة العقل على المعارف الإنسانية وتفجره في فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر حيث تم قلب النظم السياسية من ملكية إلى جمهورية في الثورة الفرنسية حتى ظهور الاشتراكيات والثورات العلمية والصناعية في القرن التاسع عشر وصولاً إلى أزمة القيم والحضارة ومراجعة النفس والحساب في القرن العشرين. وبالتالي فإن نقل مجتمعاتنا العربية من مرحلة التقليد والموروث إلى مرحلة الاجتهاد والتجديد وحرية البحث هو الشرط الأول لإحداث أي تغير في النظم السياسية والاجتماعية. ولتحقيق ذلك يجب البحث عن الجذور التاريخية لأزمة الحرية والديمقراطية في وجداننا المعاصر ثم اقتلاعها من أساسها حتى تتحول مجتمعاتنا وتهتز أبنيتها تحت معاول النقد. ونقد الموروث والمسلّمات هو البداية الحقيقية للتغير الاجتماعي. ولما كان النقد لا يتم إلا بالعقل، كان استعمال العقل هو بداية تنشيط مجتمعاتنا وتحريكها. والعقل هو العقل الطبيعي المرتبط بالحس والمشاهدة والتجربة، وبه يتم التأكيد على حرية الإنسان واستقلال إرادته ودوره في التاريخ وسيادته للطبيعة ومساواته للآخرين. يمكننا حينئذ اجتثاث الجذور التاريخية التي تكمن وراء أزمة الحرية والديمقراطية وعلى رأسها سلطوية التصور، وحرفية التفسير، وتكفير المختلف أحياناً، وتبرير المعطيات وهدم العقل. بعدها تستطيع مجتمعاتنا أن تواجه مشاكلها الفعلية وتعيد الاختيار بين الأبنية السياسية والاجتماعية المختلفة طبقاً لمصالحها واحتياجاتها. هذا ويصعب القول إنه كانت لدينا تجارب برلمانية تقليدية بعد تلك الثورات العربية في فترة ما بعد الاستقلال السياسي بل كانت في ظاهرها برلمانية وفي حقيقتها تسلطية. فالبرلمانات كلها كان يسودها حزب الأغلبية، وهو حزب السلطة الحاكمة سواء الذي كونته السلطة بعد الحكم مثل الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر، أو الذي تكون قبل الوصول إلى الحكم مثل حزب البعث العربي الاشتراكي بسوريا والعراق. وكانت مهمة الحزب تبرير قرارات السلطة وتأييدها سياسياً دون مناقشتها أو نقدها. وكانت نسبة الـ50 في المئة من الفلاحين والعمال مجرد مظهر شكلي، ولم يعبر ممثلو هذه الفئة، وهي أكثر من نصف مجتمعاتنا عدداً، عن مصالح العمال والفلاحين بل كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من السلطة الحاكمة آنذاك. وإن كان تعدد الأحزاب قبل الثورات العربية معيباً في بعض جوانبه بسبب التسابق على السلطة، والمنافسة الشخصية، وتعاونها مع الاستعمار إلا أنه استطاع الحفاظ على الحرية وحق المعارضة السياسية وظهور أجنحة وطنية تقدمية واشتراكية في أحزاب الأغلبية في ذلك الوقت مثل الطليعة الوفدية. أما تجربة الحزب الواحد فهي وإن كانت تعبر عن مطالب البعض في الحرية والاشتراكية والوحدة إلا أنها كانت تمثل ديكتاتورية السلطة القائمة ولا تسمح بالمعارضة أو بتكوين أجنحة فيها. والدليل على ذلك فشل تجربة المنابر ثم تحولها إلى أحزاب مستقلة عندما بدأ منبر اليسار أو حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي في مصر الدخول في المعارضة الجادة وتقديم البرامج البديلة عن برامج الحكومة. وقد أصبح الحزب الواحد هو حزب الحكومة، وغاب عنه دوره في قيادة الجماهير والدفاع عن مصالحها. وكان بحكم تكوينه من تحالف قوى الشعب العامل أن غاب دوره في الصراع بين حقوق الأغلبية ومصالح الأقلية. فأصبحت الرأسمالية «الوطنية» حليفاً للعمال والفلاحين! وانضم إلى الحزب الواحد كبار الملاك والصناع ورجال الأعمال وكل من يرغب في الوصول إلى مراكز السلطة. ويرجع السبب في ذلك أيضاً إلى التخلف وأهم مظاهره التبعية للسلطة، وسيطرة القمة على القاعدة.