يتحدث المفكر الجزائري مالك بن نبي، عما يسميه ظاهرة «الحضانة الحضارية» في كل دعوة دينية. ونحن نعرف عن فكرة «الحضانة» incubation أنها ظاهرة كونية، سواء في علم الأمراض أو تخمر الخبز أو نمو الشجر وولادة الإنسان؛ وهي تنطبق على الأفكار والحضارات. وهكذا فهناك فترة كمونية بين البذرة والتشكل، وبين الفكرة وتمكُّنها؛ وكانت فترة الدعوة في الإسلام وتشكل ملامح المجتمع واكتمال الدين سريعة دامت 23 سنة، ولكنها في المسيحية احتاجت أربعة عشر ضعفاً لذلك الزمن. ودعوات الأنبياء متشابهة، تمشي على نسق واحد في التحقق؛ وهي تغيِّر المجتمع سلمياً بتغيير رصيد ما بالنفوس. ويروي لنا تاريخ الهند أن الملك «آشوكا»، من أسرة موريا، الذي اعتلى العرش عام 273 ق م بعد نهاية غزوات الإسكندر قام، على غرار من سبقه، بتوسيع مملكته عسكرياً. وفي إحدى غزواته في شرق الهند قتل مئة ألف وجرح نظير ذلك من الناس، فهاله منظر الدماء والآلام. وكان اجتماعُه براهب نقطة التحول في تفكيره عن عبثية الحرب، فغير حياته بالكامل من السيف إلى الكلمة والتربية، ومن القسوة إلى الرحمة، ومن الدم إلى الهداية. ولقد أطلق في مملكته كل ألوان التسامح الديني مع الآخرين من كل الأديان، وصبَّ جهده لترميم البنية التحتية بما يفيد منه العباد، وبلغت به الرأفة حداً تهيئة مشافٍ لمعالجة الحيوانات المريضة. وهكذا طلَّق «آشوكا» الحرب إلى غير رجعة، وتحولت مملكته إلى فضاء سلمي، وذهب اسمُه سلفاً ومثلاً للآخرين. إن قصص هذه النجوم الإنسانية تدفع الإنسان للخشوع والأمل في الجنس البشري من حيث إنه مستودع لمشروع هائل. ومن نفس الهند تكرر منظر مؤثر في محكمة بكراتشي عام 1921، عندما رفض مولاي محمد علي الالتحاق بصفوف القوات البريطانية ليقاتل القوات العثمانية التركية. وينقل لنا كتاب عن وقائع تلك المحاكمة المثيرة، كيف اعتمد الرجل في دفاعه على أن لا طاعة لمخلوق، ولو كانت ملكة بريطانيا، إذا كانت الأوامر تخالف عقيدة المسلم. وإذا كانت بريطانيا تدَّعي حرية الفكر بحسب مبدأ فولتير «إنني مستعد أن أموت من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك، ولو كنتُ مختلفاً معك في الرأي» فقد قام مولاي محمد علي بالدفاع عن آرائه الشرعية في عدم سماح دينه له بأن يقتل مؤمناً متعمداً. قال: «لقد قلت في مذكرتي للمحكمة الابتدائية إنه إذا أُكرِهَ المرءُ، تحت وطأة التهديد بالموت، على أكل لحم الخنزير فليس له فقط أن يأكل اللحم، بل يتحتم عليه أن يأكله. وكذلك يستطيع أن يعلن أنه كافر ما دام مطمئناً بالإيمان. غير أنه لا يستطيع أن يقتل مسلماً، ولو أُكرِهَ على ذلك.» ويعلِّق جودت سعيد على موقف الرجل: «إن مولانا محمد علي اعترض على الذي يقتل أخاه في سبيل أصحاب الامتيازات». ولكن «الإشكالية الكبرى أن الجهل قد يمكِّن أصحاب الامتيازات من التلاعب بالجاهل، ويمكن استخدامه ضد مصالحه». والمسألة التي نعيشها الآن، نحن المسلمين، «مأساة معرفية»، وإن «المتدين الجاهل مثل غير المتدين الجاهل»؛ فكلاهما، مع الغرق في الجهالة، يتحول من «الأناسي» إلى عالم «الأشياء» المسخَّرة بيد الأقوياء. وما يحدث في الشرق الأوسط هذه الأيام هو التطبيق الميداني لهذه الأفكار.