العلامة التجارية الوطنية للدول لا يكفيها قول الأشياء الصحيحة والجميلة فقط، والعالم كله يعلم أن تحت السطح الظاهر حقائق كثيرة تُخبيها مساحيق خارجية، لكن كلما نزل غيث الواقع الميداني أظهر الوجه الحقيقي لتلك العلامة التجارية، وهي أبعد أثراً من الانطباع. أول ما يُفكر فيه الناس عندما يذكرون دولة أو شعباً، إلى جانب الافتراضات التلقائية، الموقع الجغرافي والثقافة والديانة والمستوى الاقتصادي والتقدم العلمي والتكنولوجي، حيث إنها تعتمد على قوة وأساليب الشبكة التعارفية والتحالفية والتواصل مع الآخر. وإلى ذلك يفكر الناس في النهج المتبع في مكافحة هيمنة الصورة النمطية عن حضارة ما وإظهار كل تفاصيل ومظاهر أوجه التميُز في مُختلف المجالات، وما تقوم به تلك الثقافة لمعالجة سلبياتها والإندماج مع القيم العليا لبقية العالم، وفي الوقت نفسه إبراز برامجها الإصلاحية والتطويرية التي تمس شريحة كبيرة من المجتمع ونوعية الحياة في ذلك المجتمع. كما يُعد سلوك الشعب وقيمته وتفاعُلِه مع الآخر، جزءاً مهماً من العلامة التجارية لدولة ما. فمِن خلال القوة الناعمة لأي دولة، تتطور قدرتها على الحصول على النتائج التي تريدها من خلال جذب الآخرين. وليس مستغرباً أن تزدهر القوة الناعمة بعد نهاية الحرب الباردة لتُصبح السلاح الأكثر نجاعة في كسب حروب حرق الأراضي الانطباعية، ومخاطبة وكسب ود العقول والقلوب شعورياً ولاشعورياً. فالجهود الدبلوماسية والشعبية، علاوة على المنتجات التقنية والثقافية والفنية والرياضية والمعارض والمُنظمات المدنية المُستقلة والأُمَمِيَة والماركات العلمية والتكنولوجية والتجارية.. حلت محل الأسلحة التقليدية في العديد من الحالات. لذلك نرى بعض الحكومات تدعم بالمليارات صناعة السينما، والفنون المُختلفة والرياضة، وكذلك الماركات التجارية العالمية التي تصب في كسب النفوذ والشرعية العالمية، وشعبية تلك الدول التي لها حضور مُتميز إعلامياً وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وتسعى لأن تكون الرائدة دائماً في تقنيات وتطبيقات الاتصالات والتواصل كأحد أكثر أصول القوة الناعمة تميزاً. ويتساءل البعض حول مدى أهمية الفلكلور الإلكتروني المعاصر في تحريك القوى الكامنة لوضع السياسات ورسم التصورات وخلق القصص والشائعات المتباينة، وكيف ترسخ في الأذهان وتُصبح أطروحات متداولة على نطاق واسع وذلك لضعف قدرة تلك الدول أو المجتمعات على رسم صورة إيجابية حقيقية ذات مضمون ملموس لها وتسويقها على نطاق واسع، ناهيك عن قدرتها على تحدي قراءة سلوك وانطباعات الآخرين والتأثير فيها للحصول على التغيير المرغوب. فمن خلال دعم وتوجيه بعض القنوات الإعلامية بكل الإمكانيات لخلق رأي عام مؤثر بين فئات كبيرة في منطقة إقليمية ما أو على مستوى العالم، نجحت بعض الدول في التحكم النسبي في مُخرجات بعض الصراعات الرئيسية، وبالرغم من عدم نجاح بعض الدول في تأكيد العلامة التجارية كقوى كونية للخير والديمقراطية مثلا، فإنها لا تزال حِلماً للملايين ويوتوبيا الحرية التي يتمنى أن يعيش فيها أغلب من ينتقدها ويُظهر لها العداء. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو: ما الذي يجعل الغرب بصورة عامة حِلم جميع المُراهقين في مختلف قارات العالم والكثير من المُبدعين والعلماء والمُفكرين والمِهنيين؟ الجواب هو جاذبية الغرب كعلامة تجارية مُحافظة على التوازن بالرغم من كل الإخفاقات السياسية والاقتصادية. ففيلم أميركي واحد يمكن أن يحقق أفضل مما تحققه عشرات السفارات ووزارات خارجية ووسائل إعلام مُختلفة، لإيصال رسالة ما أو تهيئة رأي عام في دول عديدة لِتَقبل سياسيات أميركية تحت الدراسة. ومن جهة أُخرى فإن هناك أهمية كبيرة لرأس المال الاجتماعي، في شكل علاقات إيجابية داخل شبكات الدول الأُخرى والمُنظمات غير الحكومية والشركات وغيرها من الجهات الفاعلة، كما أن صُنع العديد من الأصدقاء في سياق العولمة وتنوع الشبكات، يُعد حيوياً لمشاركة الغير في ريادة شبكات البُنى الاجتماعية التي تربط أنحاء العالم تحسُباً لاحتمالية أن تكون تلك هي التي ستُقرر معايير السياسة الدولية في ما هو قادم من سنوات، بِغض النظر عن الحدود السيادية ودور القانون الدولي والمعاهدات الدولية الرسمية. لا تعليم سيتطور ولا صحة ولا سلوك نشء وممارسات مجتمعية أو معرفة يمكن دمجها مجتمعياً وتنظيمياً، بمعزل عن قياس جودة الأداء وتحيكم وضبط الجودة، ووجود تغذية راجعة لا تخضع لضغوط وغير مُتحكم بها ولا تخضع لفلترة قبل أن تصل لصانع القرار. فإذا كان كل شخص له مسؤول مهم يتبعه ويدين له بالولاء دون الدولة بكل مكوناتها، فستكون هناك مصاعب وعراقيل كثيرة في صناعة العلامة التجارية الإيجابية المستدامة أو الحفاظ على حجم التأثير على الآخر في ظل زيادة التداخل بين قوة الجذب الناعمة وقوة شبكات الإنترنت. وفي نهاية المطاف تتطلب العلامة التجارية للدولة نموذجاً جديداً يتجاوز القوة الناعمة وفهم تعددية البدائل اللامركزية للتسويق الإيجابي للدولة.