تناولنا في المقالات الماضية أهمية القيام بثورة ثقافية دعا إليها في أحد أحاديثه التليفزيونية الأستاذ «محمد حسنين هيكل»، مفرداتها أن يقدم للناس صحيح الدين وصحيح التاريخ وصحيح العلم. ونريد اليوم أن نعرض لموضوع صحيح العلم، وهو موضوع معقد في الواقع لأن إبداء الرأي الصائب فيه يقتضي معرفة وثيقة بتاريخ العلم الحافل بالتجارب العلمية الزائفة والصحيحة، وفلسفة العلم التي تحدد معايير الحقيقة العلمية، وعلم اجتماع العلم الذي يربط بين البحث العلمي والسياق الاجتماعي بالمعنى الواسع للكلمة. ورغم أنني منذ سنوات بعيدة نشرت بحثاً وافياً عن مختلف مشاكل العلم عنوانه «مستقبل البحث العلمي في الوطن العربي» ضمنته كتابي «الزمن العربي والمستقبل العالمي» (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1998)، فإني في قراءاتي الحالية اطلعت على كتاب نادر عنوانه «الثقافات الثلاث: العلوم الطبيعية والاجتماعية والإنسانيات في القرن الحادي والعشرين»، ألّفه «جيروم كيفان» وترجمه الدكتور «صديق محمد جوهر» ونشرته سلسلة «عالم المعرفة» في يناير 2014. وأجرى «جيروم كيفان» مقارنات بالغة العمق بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانيات بناءً على تسعة نطاقات، هي الاهتمامات الرئيسة، والمصادر الرئيسة للبرهنة، ومدى التحكم في الشروط، وتأثير الظروف التاريخية، والتأثير الأخلاقي، والاعتماد على الدعم الخارجي، وظروف العمل، والإسهام في الاقتصاد القومي، ومعيار الجمال. ويعنينا من هذه النطاقات النطاق الثاني، وهو المصادر الرئيسة للبرهنة ومدى التحكم في الشروط. في هذا النطاق تظهر الفروق الكبيرة بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية والإنسانيات ما دمنا نتحدث عن «صحيح العلم». والسؤال الجوهري هنا: ما هي المعايير التي تجعل نظرية ما تعبر عن صحيح العلم؟ في العلوم الطبيعية التي تقوم أساساً على القيام بتجارب علمية منضبطة، هناك شرطان لابد أن ينطبقا على أي نظرية علمية حتى تعتبر من صحيح العلم. الشرط الأول هو القابلية للإعادة. والعلماء عادة ما ينشرون تجاربهم العلمية، ويتضمن ذلك الشروط الأساسية التي تمت التجربة في ضوئها، بحيث يستطيع أي باحث آخر الحصول على النتائج نفسها في الشروط نفسها. غير أن هناك في العلوم الطبيعية محكاً موضوعياً آخر لتقييم صحيح العلم وهو «التجربة الحاسمة»، والتي تجري حين ينشب الخلاف بين العلماء المتخصصين في فرع ما من فروع العلوم الطبيعية على القيام بها حسماً لهذا الخلاف، ولتبين ما إذا كانت التجربة تنتمي لصحيح العلم أولاً. وبعيداً عن هذه المناقشة المنهجية حول معايير صحيح العلم، يمكن القول إن كيفية الاقتراب من أنشطة البحث العلمي وتقييمها تغيب عن الجماهير بل إنها تغيب عن بعض الباحثين العلميين أنفسهم. ويبدو ذلك جلياً في المناقشات التي تدور حول أهمية البحث العلمي أو دوره في مجال التنمية أو مشكلاته أو كيفية تطويره في بلد مثل مصر. وأول مفردات هذا الإطار النظري هي ضرورة الانطلاق من منظور ونظريات ومفاهيم سوسيولوجيا العلم، وهو أحد فروع علم الاجتماع ينظر للعلم باعتباره نسقاً اجتماعياً يتفاعل مع بقية الأنساق السياسية والثقافية والاقتصادية. والمدخل الثاني هو مدخل السياسة العلمية. والسياسة العلمية أصبحت الآن بحثاً علمياً مستقلاً، وهو يتعلق بتحديد أهداف البحث العلمي، ووسائل تحقيقها، وقبل ذلك تحديد أولويات البحث العلمي، وإقامة التوازن المطلوب بين البحوث الأساسية والبحوث التطبيقية، وهي التي تضع خطة إنشاء المراكز العلمية، وتحدد نوعية تأهيل الباحثين وتدريبهم، وتعقد الصلة بينهم وبين صانع القرار السياسي من ناحية، والقطاعات الصناعية والإنتاجية من ناحية أخرى. ونأتي أخيراً إلى مدخل المشروع النهضوي، ونقصد به مدى الارتباط بين العلم والتنمية. ونعرف من واقع دراسات تاريخ العلوم المقارن، أن لحظات النهوض الوطني، كانت ترتبط عادة بنمو البحث العلمي. ومن هنا يمكن القول إنه في البلاد التي صاغت لنفسها مشروعاً نهضوياً، فإن العلم والبحث العلمي يحتل في العادة مكانة عليا، لأن المشروع النهضوي يهدف عادة إلى تحقيق التنمية البشرية الشاملة، مع التركيز على قوة الدولة بالمعنى الشامل، ونعنى عسكرياً وصناعياً وثقافياً. ولو تأملنا تاريخ مصر السياسي والاجتماعي، لوجدنا أن المشروع النهضوي الذي صاغه «محمد علي»، كان يركز تركيزاً واضحاً على النهوض بالتعليم، والبحث العلمي، والتكنولوجيا. فقد أرسل البعثات العلمية إلى أوروبا لدراسة العلوم العسكرية وغيرها، مع التركيز على التكنولوجيا، والجوانب التطبيقية، وأنشأ المدارس والكليات العلمية، واهتم بالتعليم العام، والترجمة من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية، وهى مهمة نهض بها رائد التنوير العربي «رفاعة الطهطاوى»، بالإضافة إلى جهوده العديدة الأخرى. ويمكن القول إن المشروع النهضوي الذي صاغته ثورة يوليو 1952، كان من بين مكوناته الأساسية تطوير وتدعيم ودفع البحث العلمي في مختلف المجالات الأساسية والتطبيقية، على ضوء سياسة علمية بصيرة، لم يتح لها للأسف أن تستمر، نتيجة ظروف سياسة خارجية وداخلية، ما يؤكد العلاقة الوثيقة بين النسق السياسي والبحث العلمي. ويبدو مصداق هذا المدخل في أن المشروع القومي الخاص بقناة السويس الذي بادر بطرحه الرئيس «السيسي» سيكون دافعاً لتطوير البحث العلمي وربطه ربطاً وثيقاً ببرامج التنمية المستدامة.