يعلم القراء أن إحدى الوسائل الحيوية في أجهزة المخابرات في العالم لجمع المعلومات عن جيوش الأعداء هي التنصت اللاسلكي على أجهزة اتصال الطرف الآخر، وعادة تؤدي وحدات التنصت التي تسمى وحدة الحرب الإلكترونية إلى اكتشاف نوايا العدو في الإعداد لهجوم ما وذلك بالاستماع إلى الرسائل المتبادلة بين القيادات والتشكيلات التابعة لها. كذلك فإن هذه الوحدات تلعب دوراً مهماً أثناء المعركة في رصد تحركات فرق العدو ووحداته المقاتلة من موقع إلى آخر وهو ما يؤدي إلى إعداد العدة لمجابتها. كانت هذه توطئة ضرورية لنقدم قراءة تحليلية في إحدى الوثائق السرية الإسرائيلية الخاصة بحرب أكتوبر 1973، والتي أفرج عنها أرشيف الجيش الإسرائيلي منذ أيام، أي بعد حجبها لمدة واحد وأربعين عاماً بعد الحرب. هذه الشهادة لأحد قادة وحدات الحرب الإلكترونية الإسرائيلية، وهي وحدة التنصت رقم 848، هو العقيد يوئيل بن بورات. إن الشهادة التي أدلى بها الرجل أمام لجنة أجرانات التي كلفت بالتحقيق في الهزيمة الإسرائيلية تكشف عدة أمور دالة على مدى إحكام خطة الخداع الاستراتيجي المصرية العربية التي قاد تنفيذها الرئيس السادات بنفسه. أول هذه الأمور أن وحدات التنصت الإسرائيلية في سيناء والجولان رصدت اتصالات مصرية وسورية تفيد بأن هناك حشوداً للقوات تتجمع على خط القتال وأن هناك صواريخ مضادة للطائرات يتم نقلها من منطقة دمشق إلى جبهة الجولان، وأن هناك دوريات تنقل ذخائر حيّة خاصة بالمدفعية والدبابات من العمق المصري إلى خط قناة السويس. لقد قام العقيد بن بورات بترجمة فحوى كل هذه الرسائل المتبادلة بين الوحدات والقيادات الميدانية في مصر وسوريا إلى اللغة العبرية وإرسالها إلى رئاسة المخابرات العسكرية مع إبداء رأيه الذي رأى في هذه المعلومات علامة أكيدة على أن هناك قراراً مصرياً سورياً بشن هجوم وشيك. إن عبقرية خطّة الخداع الاستراتيجي العربية تتجلى في السيطرة على عقل رئاسة المخابرات في إسرائيل، سواء المخابرات العسكرية التابعة للجيش أو «الموساد»، أي المخابرات العامة. لقد أمكن بوسائل متعددة زرع مفهوم راسخ في عقول القيادات الإسرائيلية بأن العرب لا يقدرون على القتال ولا يجسرون عليه أيضاً وأن كل ما يملكونه هو القيام بمناورات على خط الجبهة المصرية صيفاً وفي الخريف لشغل قواتهم وإلهائها عن التساؤل: لماذا لا نحارب؟ طبعاً تلقت القيادة معلومات وحدات التنصت باستخفاف وسفهت رأي العقيد بن بوران واستبعدت تماماً أن تكون التحركات المصرية السورية دالة على نية للهجوم. أما الأمر الثاني المهم الذي تكشف عنه شهادة قائد وحدة التنصت الإسرائيلية فهو أنه تلقى إنذاراً من «الموساد» في اليوم الأول من أكتوبر يفيد بأن هذه التحركات التي تمثل مناورة ستتحول إلى هجوم فعلي وأن صورة المناورة ليست سوى غطاء للهجوم الحقيقي القادم. إن هذا الإنذار من «الموساد» للمخابرات العسكرية يعني أنه من الضروري رفع درجة الاستعداد في الجيش، غير أن شعبة الأبحاث في المخابرات العسكرية، وكانت المسؤولة عن إصدار التقديرات، اعتبرت هذا الإنذار غير جاد وبالتالي استبعدت احتمال وقوع هجوم. وهناك شواهد جديدة أخرى على عبقرية خطة الخداع العربية سنعود إليها. ـ ـ ـ د. إبراهيم البحراوي