يبدو أن تقاليد الحكم تنبع من طبيعة المخزون الحضاري عند الناس. فحتى لو كان هناك نظام ديمقراطي ليبرالي لحوّله بعض الناس بالضرورة إلى نظام تسلطي. وما وصفه علماء الاجتماع والتاريخ في الغرب على أنه «الاستبداد الشرقي»، وما قاله بعض المجددين في القرن الماضي من أنه لا يصلح الأمة إلا «المستبد العادل»، وهو ما يقوله بعض العلماء المحدثين من أن نمط التحديث في الشرق هو الحاكم القوي، صانع الدولة القوية، في مقابل نمط التحديث الغربي الليبرالي، كل ذلك تعبير عن بناء حضاري أساسي في وعي الجماهير. ولكن المهم هو توظيف هذا التصور الهرمي للعالم للصالح العام. وبالتالي يكون قيام أيديولوجية سياسية واحدة تنبع من حضارة الأمة، وظهور زعيم واحد، منقذاً للأمة اعتماداً على الولاء المزدوج بين الزعيم والأمة، هو نمط التحديث في مجتمعاتنا. وبالتالي يمكن، في بعض الجمهوريات العربية التي عرفت ثورات في الخمسينيات والستينيات، الجمع بين الحزب الواحد الذي يعبر عن قلب الأمة وحضارتها واستقرارها في التاريخ، وبين تعدد الأحزاب الممثلة في تعدد وجهات النظر من خلال الشورى. ولما كانت أزمة الحرية والديمقراطية تتمثل أساساً في الانفراد بالرأي الواحد، وتهميش كل ما عداه من الآراء، فإن قيام جبهة وطنية يكون هو الحل الأمثل لشرعية جميع الاتجاهات وحقها في التعبير على قدم المساواة. وقد قامت حركات التحرير كلها على أساس جبهات وطنية في فيتنام وكوبا والجزائر وفلسطين، إلا الثورات العربية التي انفرد أحد تياراتها بالعمل السياسي والاحتكار على جميع التيارات السياسية الأخرى. ولا تعني الجبهة الوطنية مجرد التعاون السياسي على مستوى التحقيق الفعلي للبرامج السياسية، بل تعني أيضاً الاتفاق على الحد الأدنى من الأهداف القومية التي لا يختلف عليها اثنان. فمثلاً بالنسبة لمجتمعاتنا العربية تتحدد أهدافنا القومية في ثلاثة: الأول تحرير الأراضي المحتلة، والقضاء على جيوب الاستعمار في المنطقة، وإنهاء الاحتلال الصهيوني لها، أي القضية الفلسطينية. والثاني، القضاء على جميع مظاهر التخلف، مثل التفاوت الشديد، والأمية، والبيروقراطية، أي القضية الاجتماعية. والثالث، تحويل الكم الجماهيري إلى كيف، والقضاء على سلبية الجماهير ولامبالاتها وإشراكها في خدمة أوطانها، وفي التنمية أي قضية الحرية والديمقراطية. ويمكن إذن الاتفاق على هذا الحد الأدنى من الأهداف القومية: الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، والحرية والديمقراطية، بحيث تلتقي عليها جميع الاتجاهات السياسية. ومع ذلك، يمكن تعدد المداخل النظرية لصياغة هذه الأهداف، ولكنها تصب جميعاً في وحدة الأهداف القومية. فتعدد المداخل النظرية ووحدة البرامج السياسية شرط لتأسيس الجبهة الوطنية، بهذا المعنى. ويكون المحك في النهاية هو قدرة الإطار النظري لهذا الاتجاه أو ذاك على إقناع الجماهير وتجنيدها، وعلى تشخيص الواقع وتقديم الحلول لمشاكله. كما تتعدد المناهج العلمية لتحقيق الأهداف القومية. فقد يبدأ اتجاه بتجنيد العمال والفلاحين أي الطبقة العاملة. وقد يبدأ اتجاه آخر بمحو الأمية أولاً. وقد يبدأ فريق ثالث بمحاولة إقامة ثقافة وطنية واحدة تكون بوتقة لصهر القوى الوطنية. وقد يبدأ غيره اتجاه بتربية الأفراد، وقد يبدأ آخر بتغيير الهياكل الاجتماعية، أو بتغيير نمط الإنتاج الزراعي إلى النمط الصناعي. فتعدد الأساليب العلمية يشابه تعدد الأطراف النظرية في نطاق وحدة الأهداف القومية. وإذا نظرنا -على سبيل المثال- للحركات النقابية لدينا في مصر نجد أنها لم تلعب دوراً رئيسياً في حياتنا السياسية، وذلك لأن أي تنظيم من القاعدة ولا يخرج من القمة لا يكون له أي أثر لأن وعينا التاريخي لم يعط للشعب أي دور في تقرير مصيره. وقد كان بعض النشاط الذي تمارسه النقابات يرجع أساساً للأيديولوجيا السياسية التي اعتنقها العمال وليس لدور النقابة وثقلها في التحرك السياسي. وبالإضافة إلى أن وعينا التاريخي لم يكترث بدور الشعوب، فإن طابع المجتمع المتخلف جعل النقابات أيضاً لدينا على هامش الحياة السياسية. كما أن قادة النقابات كانوا أقرب إلى تنفيذ أوامر السلطة السياسية منهم إلى تمثيل مصالح العمال. كما أن الطابع البيروقراطي للنقابات أفقدها حركتها ونشاطها. واقتصر دورها على جمع الاشتراكات إجبارياً من المنبع، وعمل مؤتمرات دورية لتأييد السلطة، وبعض الأنشطة الجزئية في ميدان الخدمات الاجتماعية. ولم يرَ أعضاء النقابة نتائج ملموسة من انضمامهم إليها، ولم يشاهدوا نضال زعمائها دفاعاً عن مصالحهم، ما جعلهم أقرب إلى السلبية منهم إلى الإيجابية. ومع ذلك، فإن تكوين الجمعيات والهيئات والنقابات المهنية في بلد كمصر، خطوة ضرورية لربط السياسة بمصالح الناس دون الاكتفاء بالشعارات العامة، خاصة إذا ما أفرز كل تجمع زعاماته الخاصة، والتفت حولها جماهير النقابة، والمطالبة بالحد الأدنى من الحقوق، والمطالبة بحق التعبير والنشر في الجرائد والمجلات النقابية، والانضمام إلى الاتحادات العربية والدولية، والقيام بمهام التربية السياسية للنقابيين. إن الانتقال من مجتمع السلطة إلى مجتمع المؤسسات، ومن مجتمع الأفراد إلى مجتمع القوانين، هو الذي سيسمح بتنشيط النقابات ومشاركتها في الحياة السياسية. وتلك مهمة التحديث الشامل لمجتمعاتنا العربية.