عندما غزا «الإخوان المسلمون» الأزهر
«مصر والعالم الإسلامي كله مدين للأزهر فكرياً وعقائدياً»، يقول محمد شلبي، في مقال بمجلة« الهلال» المكرس لتجديد الخطاب الديني، كان ذلك في نوفمبر 2013، ويضيف في مقال بعنوان «الأزهر الشريف وسطي دائماً.. متشدد أحياناً»، أن الأزهر وجد نفسه على الدوام في صراع مع «التيارات المنحرفة»، يغالب ظلام الجهل المطبق الذي ران على العالم الإسلامي زمناً طويلاً، فكان منارة أمل تشع في ظلام العهود السوداء.
لقد أُنشئ منصب شيخ الجامع الأزهر رسمياً في عهد الحكم العثماني، يقول الكاتب، «ليتولى رئاسته أحد علمائه، ويشرف على شؤونه الإدارية، ويحافظ على الأمن والنظام. ومن وقتها يعتبر شيخ الأزهر شيخاً لعلماء مصر والعالم الإسلامي، وهو في نظر المسلمين شيخهم جميعاً وإمامهم وقدوتهم ورمزهم وفخارهم وهو الإمام الأكبر، صاحب الرأي في كل ما يتصل بالشؤون الدينية». اتسمت الصفة المذهبية للأزهر بنوع من التعددية والمرونة. «فالأزهر يُدرِّس لطلابه ثمانية مذاهب: أربعة منها ليست من مذاهب أهل السنة ليستفيدوا بما فيها». من أين إذن، جاء التطرف والتشدد الفقهي إلى المجتمع المصري وإلى الإسلام عموماً؟
يرى الأستاذ شلبي أن الأزهر واجه «مأزقاً فكرياً رهيباً حينما تسللت للساحة المصرية مدارس دينية تمثل التشدد والتطرف الديني، وقد استطاعت هذه المدارس أمام الطفرة النفطية أن تغير الكثير من ثوابت الأزهر في الفكر والعقيدة، فقد جذبت أموال النفط أعداداً كبيرة من العلماء، وبدلاً من أن يذهب هؤلاء لينشروا الوسطية المصرية ومنهج الأزهر في الخارج، كما كانوا يفعلون، عادوا لينشروا التشدد الديني في الداخل، ووجدت مصر نفسها أمام منظومة دينية تختلف تماماً عن كل ما عرفت من مدارس الفكر والعقيدة على مر التاريخ».
ولعلّ هذا الجمود الفكري ومحاربة التجديد وعدم إتاحة الفرصة للنقاش العلمي والتاريخي الحر، هو الذي يجعل شباب العالم العربي رجالاً ونساء أدوات استقبال شديدة الحساسية الالتقاط لكل الأفكار المنافية لحياة القرن الحادي والعشرين، وسريعة الانخراط في تيارات الأفكار المتعصبة والجماعات المتشددة والإرهاب. بل ونحن نرى هذه الظواهر أشد بروزاً في العالم الإسلامي على وجه الخصوص مهما قيل عن المجتمعات الأخرى، أو شوهد هنا وهناك.
فالذي حمل التطرف إلى مصر مثلاً لم يكن رجال الأزهر، والذي أسس حركة الإخوان المسلمين والحركات والجماعات الأخرى لم يكونوا من رجال الأزهر، والذي ملأ صفوف هذه التنظيمات بالرجال والنساء كذلك لم يكونوا، إلا في أضيق الحدود، من شيوخ الأزهر.
كانت المفاجأة ولا تزال، أن الذي أسس هذه الأحزاب الدينية وقوى أركانها بالكوادر والنشطاء ورؤساء اللجان والممولين، كانوا شباب الجامعات وأرباب مختلف المهن التعليمية والطبية والهندسة والميكانيكية والمحامين والقضاة وتجار الأسواق والبنوك، والأعجب الفتيات والنساء اللواتي تحمل قاسم أمين وكثيرون غيره من الرجال والنساء، ممن تحملوا الكثير كي تنال المرأة حقوقها في التعليم والعمل، ولا تكون امرأة أمية فقيرة جاهلة معزولة اجتماعياً وسياسياً، حبيسة المنزل، كما كانت في مصر زمن قاسم أمين عام 1899، عندما أصدر كتابه «تحرير المرأة»، أو كما هي اليوم في أرياف باكستان أو جبال أفغانستان!
كل من يدرس الإسلام بمذهبية السني والشيعي بانتظام، ويطالع كتب التفسير والحديث والفقه يدرك بوضوح أن فكر جماعات «الإخوان المسلمين» والسلف والجماعات الجهادية وحزب «التحرير» وحزب «الدعوة» و«حزب الله» وغير ذلك من الجماعات مجرد قراءة انتقائية للتراث الإسلامي والنصوص الدينية، وأن قادة هذه الجماعات تبرز من جوانب الإسلام والنصوص ما تشتهي وما يتلاءم مع مصالحها ونشاطاتها وبيئتها والدول التي تدعمها، وتتجاهل ما يتعارض، وهذا كله أو بعضه. هكذا «الإخوان»، وهكذا السلف وغيرهم، وعلى المنوال نفسه تسير جماعات التشيع السياسي.
غازل الإخوان الأزهر منذ بداية قيام الجماعة، فنرى المرشد البنا يقول في «رسالة المؤتمر الخامس» 1938 مغازلا الأزهر بحرارة فيقول: «والأزهر بطبعه معقل الدعوة الإسلامية وموئل الإسلام، فليس غريباً عليه أن يعتبر دعوة الإخوان دعوته وأن يعد غايتها غايته، وأن تمتلئ الصفوف الإخوانية والأندية الإخوانية بشبابه الناهض وعلمائه الفضلاء ومدرسيه ووعاظه، وأن يكون لهم جميعاً أكبر الأثر في نشر الدعوة وتأييدها والمناداة بها في كل مكان» (مجموعة رسائل الإمام الشهيد، زكريا بيومي. طبعة الشهاب، ص 165).
وعندما قامت الحرب العالمية الثانية ظهرت في بدايتها دعوة لتآلف الجماعات الإسلامية والأزهر، تحت تصور أن «وقوع الخلاف بين معسكرين في أوروبا المسيحية يتيح الفرصة لكي يتخلص المسلمون من الاستعمار الأوروبي، وفي بعض الأحيان تصور آخرون أن ألمانيا التي هي خصم لبريطانيا وفرنسا ستساعد المسلمين على الاستقلال، ولا سيما أن ألمانيا لم يكن لها مستعمرات في العالم الإسلامي، ومن هنا كان هناك ميل لا شعوري إلى المحور - ألمانيا وإيطاليا - ظهر بين أتباع الجماعات الإسلامية بصورة أوضح من قطاعات أخرى، وكانت هذه نزعة مؤقتة في السنوات الأولى من الحرب التي شهدت تصاعداً في قوة المحور، وقد مهد الإخوان لربط الأزهر بهذا التيار. وقد حقق «الإخوان» نجاحاً في ربط الأزهر بهذا الاتجاه برغم تحذير إحدى الصحف الإسلامية، وبرغم التهديد بالإطاحة بشيخ الأزهر نفسه». كما أن العديد من المظاهرات -حسب زكريا بيومي- قامت بإيعاز من «الإخوان» وغيرهم للتأثير على طلبة الأزهر، حيث «أثبتت بها نجاحاً كبيراً في السيطرة على جزء كبير من هؤلاء الطلاب وكذا علماء الأزهر».
كان ضمن أهداف الإخوان التقليل من جماهيرية حزب الوفد وبقية الأحزاب بين طلاب الأزهر. وقد خرجت جماعة الإخوان برصيد كبير في صفوفها من طلاب الأزهر في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ولكنها لم تحقق بقية أهدافها في تحريك الأزهر بالاتجاه المرغوب. وعندما انشقت جماعة «شباب محمد» عن الإخوان رأت أن الأزهر «يحتاج إلى تقويم وأن الأزهريين يحتاجون إلى جهاد شاق». وهاجمت صحيفة «جماعة شباب محمد» علماء الأزهر قائلة بأنهم «فرطوا في كرامتهم فأحبوا الدنيا وحرصوا على المال والمناصب فسكتوا عن تطبيق الشريعة وتغاضوا عن انتهاك حرمات الإسلام وأقبلوا على الحكام يستجدون رضاهم».
وهاجم سيد قطب في كتابه «معركة الإسلام والرأسمالية» الزي الأزهري المعروف فقال: «حتى تلك الأزياء الخاصة للمشايخ والدراويش، إنها ليست شيئاً في الدين، فليس هناك زي إسلامي وزي غير إسلامي.. وعلام تميز بعض المسلمين من بعض بلباس؟».
خليل علي حيدر
كاتب ومفكر- الكويت