بالتزامن مع منتداها التاسع الذي حمل عنوان «الإرهاب من جديد»، والذي انعقد الأسبوع الماضي وبمناسبة مرور خمسةٍ وأربعين عاماً على صدورها أطلقت جريدة «الاتحاد» نسخةً جديدةً وقشيبةً شكلاً ومضموناً مع ملاحق شهريةٍ مهمةٍ، مثل ملحق خاصٍ يتعلق بالإرهاب، الذي بات يفرض نفسه على أولويات الصحافة والثقافة والسياسة في العالم. إن المؤسسات الصحفية لها أدوار رائدة تتجاوز مهمة نقل الأخبار ومتابعتها وتقديم التحليلات الرصينة لها، وهي أدوار التثقيف ونشر الوعي ورعاية الحوارات الجادة وتبادل الأفكار ومحاربة الأخطار التي تحدق بالبلدان وقيادة الرأي العام وبخاصةٍ تجاه القضايا الاستراتيجية، التي تهمّ الدولة والوطن، وما تقوم به صحيفة «الاتحاد» في هذا المنتدى هو دور توعوي غائب عن الغالبية العظمى من صحافة المنطقة. لا أحد يشكك أننا بإزاء طورٍ جديدٍ من الإرهاب الذي لم يزل يتخلق في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط والعالم أجمع، وهو إرهابٌ وإنْ كان يعدّ امتداداً لتاريخ طويلٍ قبله، فإنه في الآن ذاته يحمل مؤشراتٍ مهمةٍ على مرحلةٍ جديدةٍ من الإرهاب تخلط شيئاً من الماضي مع أشياء جديدةٍ في الحاضر، وتشير إلى ما يمكن أن يحدث مستقبلاً. إن الدور الثقافي الاستشرافي المستقبلي لا يقل بحالٍ عن المواجهة الآنية في الحاضر، فمآلات الإرهاب تتحكم فيها قرارات الحاضر وتماسك الرؤية والقدرة على استكناه الحراك المطلوب وطبيعة التطور القادم، وهذا الدور ليس دور الدولة ومؤسساتها فحسب بل هو كذلك دور الصحافة ومراكز الأبحاث كما هو دور المثقفين، والمحللين، والدارسين المتخصصين. منتديات الحوار ومؤتمراته لا تقتصر فائدتها على الأوراق المقدمة والتعليقات المختصرة التي تطرح في جلساتها المعتمدة بل كذلك في الحوارات والسجالات وتلاقح الأفكار الذي يتم على هامشها بين المشاركين فيها من شتى التخصصات والتوجهات الثقافية والفكرية والسياسية، وغالباً ما تكون المنتديات التي تجمع النخب ذات أهميةٍ خاصةٍ حين تكون صريحةً وواعيةً ذلك أنها تفتح أعين الجميع على مواطن الخلل في الرؤى ومواضع القوة في الجدل، ما يؤدي إلى التصحيح والاستدراك ومزيد ضبطٍ وتحقيقٍ يثري كل صاحب فكرٍ ويمنحه زوايا متعددة ورؤى متباينة يخرج منها بالأجود والأفضل. لقد تمّ التأكيد في المنتدى على أن الإسلام كدينٍ قد تمّ اختطاف جزء كبيرٍ من صورته من قبل جماعاتٍ متعددةٍ تدعي تمثيله وترفعه شعاراً يخدم غاياتها السياسية وقد تم تحويله لدى كثيرٍ من هذه الجماعات إلى سلاحٍ في معركةٍ واستغلاله لتجنيد العديد من شباب الأمة الإسلامية والعربية ليعيثوا فساداً في بلدانهم وفي العالم كله. بما تفرضه الأوضاع الجديدة في المنطقة من ضرورة استخدام التقسيمات الطائفية فإن الإرهاب الجديد له عدة ملامح تجمع أطرافه وتبين عن محتواه، ومنها: أولاً، البعد عن التنظير والتركيز على التأثير. وهو ما يعني قلة الاهتمام بعملية التنظير العقدي والفكري والسياسي للإرهاب وأفكاره وعملياته وتبريرها شرعياً وواقعياً في مقابل التركيز المباشر على التخطيط للعمليات والاهتمام ببسط النفوذ العسكري وإخضاع الخصوم، وهو ما نراه في تنظيم إرهابيٍ مثل «تنظيم داعش» وجماعةٍ إرهابيةٍ، مثل «جماعة الحوثي»، لقد اكتفى «داعش» بتنظيرات «القاعدة» وما سبقها، واكتفت «جماعة الحوثي» بتنظيرات «حزب الله» اللبناني، وإرث حسين الحوثي. ثانياً: الزيادة الملحوظة في الاهتمام بالإعلام، وهو أمرٌ ورثته هذه التنظيمات عن سابقاتها وطورته كل واحدةٍ منها بطريقتها الخاصة، فمثلاً تمارس «جماعة الحوثي» استخداماً للإعلام بناءً على تجربة «قناة المنار» التابعة لـ«حزب الله» اللبناني، كما تنطلق «داعش» من خبرةٍ «القاعدة» الطويلة في الاعتماد على «قناة الجزيرة» في ترويج خطاباتها وقادتها، ولكنّها تضيف عليها عنايةً خاصةً بوسائل الاتصال الحديثة ومواقع «اليوتيوب»، كما أنها تصدر صحيفة «دابق» الإلكترونية، اقتداء بإصدارات «القاعدة» المتعددة كصوت الجهاد وغيرها. ثالثاً: الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي التي لم تدركها «القاعدة» في أوج وهجها، كـ«توتير» و«فيس بوك» وغيرها، وكانت تعتمد على المنتديات حينذاك، وهذه المواقع أصبحت مرتعاً خصباً لتجنيد الإرهابيين والتغرير بالشباب والشابات من كل مكانٍ في العالم، وهي مواقع يجب أن تكون تحت طائلةٍ قوانين دوليةٍ تجبرها على منع وحجب والتبليغ عن كل من يستخدمها للدعاية للإرهاب أو ممارسة التجنيد. رابعاً: وكما جاء في ورقة تركي الدخيل بعنوان «أهمية وسائل الإعلام في مكافحة التطرف الديني»، فإن «داعش» بدأت في إصدار نسخٍ لألعاب الأطفال العالمية التي فيها قتال وتركب عليها أصوات عناصرها بالتكبير وبالتفجير وتدعو إلى الالتحاق بالتنظيم والمشاركة في قتالٍ فعلي وليس في لعبةٍ فحسب، و«داعش» كما هو معروفٌ لا تجد حرجاً في تجنيد الأطفال وتدريبهم على حمل السلاح والمشاركة في القتال. إن مسيرة الإرهاب في العالم العربي تتجه دائماً إلى مزيدٍ من الإرهاب ومزيدٍ من التوحش، وكلّما جاءت جماعةٌ أو تنظيمٌ أنسى الذي قبله لفرط توحشه، ومسيرة الإرهاب الديني الحديث بدأت مع جماعة الإخوان المسلمين في الاغتيالات والتفجيرات، فيما كان يعرف بالنظام الخاص أو التنظيم السري للجماعة، والذي انتقل لمرحلة أكثر عنفاً في التنظيم الذي بناه سيد قطب منتصف التسعينيات وتحدث علي عشماوي عن مدى التوحش الذي كان ينوي القيام به لولا القبض عليه وعلى عناصر التنظيم قبل التنفيذ. إن قيادات جماعة «الإخوان المسلمين» حالياً كان عدد من كبارهم أعضاء في تنظيم سيد قطب، وهو التنظيم الذي فرّخ جماعات الإرهاب في السبعينيات من جماعة «الجهاد» إلى «جماعة المسلمين»، التي هي جماعة شكري مصطفى المعروفة إعلامياً بـ«جماعة التكفير والهجرة» إلى «الفنية العسكرية»، والتي أدت في النهاية إلى اغتيال الرئيس المصري أنور السادات. في الثمانينيات ذهبت معظم هذه الجماعات إلى أفغانستان، وحين عادت في التسعينيات قامت جولةٌ جديدةٌ من الإرهاب على يد «الجماعة الإسلامية» في تفجيرات واغتيالات وسطو مسلح على الشرطة والأمن، كما على «الأقباط»، وخرج كذلك تنظيم «القاعدة»، الذي كان ينشر القتل والدمار في الدول العربية وفي العالم وصولاً إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية التي ضربت أميركا. اليوم تأتي «داعش» حاملةً هذا الإرث الإرهابي المدمّر، ولكنّها تزيد عليه توحشاً بطائفيتها المقيتة، التي تستهدف الأقليات بأنواعها كما تستهدف المكون السُني في سوريا والعراق. أخيراً، فإن هذا الإرهاب الجديد يوجب مراجعاتٍ كثيفةٍ للتأويلات السائدة للإسلام تخرج بالأمة والدول والشعوب من هذه الوهاد التي لم نصل إلى قاعها بعد.