عُهد إليَّ في ملتقى الاتحاد السنوي، هذا الحفل الفكري السنوي الناجح والمتنوع في انتماءاته وكفاءاته، بالتعقيب على ثلاث أوراق. الورقة الأولى للدكتور علي راشد النعيمي: "ثورات الربيع العربي: هل هي نتيجة للإرهاب أم سبب له؟" والورقة الثانية للأستاذ منصور النقيدان: "الإرهاب في زمن حركات التغيير: الاستقطابات والتداعيات" والورقة الثالثة للأستاذ عبد الوهاب بدرخان: "إعادة تصدير الإرهاب من الغرب إلى العالم العربي"، والأفكار الواردة في المقالات الثلاث متنوعة ورصينة وذات حمولة مضمونية قوية... وإذا صح لي أن أخرج بخلاصتين اثنتين من خلال مبدأي التركيز على التشخيص والبحث عن المخرج المعقول، فإن الأولى توحي إلى مسلمة مفادها أن الإرهاب مصيبة وآفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، وأن الإرهاب لا دين له ولا ملة، فالإرهابيون عقولهم مشوشة، ويأبون أي حجة ما لم تكن حجتهم هم. لذلك فهم لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، لسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا... والخلاصة الثانية هي أن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، وإلا فإنها ستولد أخرى وأخرى إن بقيت الأسباب الجوهرية والبنيوية والتكوينية من دون علاج. وإذا أردنا إعطاء صورة علمية للواقع فلابد في نظري من طرح السؤال التالي: أين تتجلى مظاهر هذا الإرهاب وما هي مستوياته؟ أظن أن هذا التساؤل هو الذي يمكننا من إيجاد الحلول التي يجب أن تداوى بعلاجات لا فصلية أو مؤقتة. فهناك في نظري مسألتان اثنتان: الذي يقع من تفريغ للإرهاب وسوء للتنمية في الوطن العربي مرده إلى سوء السياسات. وما يُقال عن أن تأخر التنمية العربية ليس ناجماً عن نقص الموارد، وإنما عن سوء السياسات، أي أن تعثر مسار التنمية ليس قدراً مفروضاً على المنطقة العربية، بل نتيجة قصور محدد ناتج من إدارة قاصرة للموارد المتاحة، فنفس الشيء يُقال عن الإرهاب، فإنما في كثير من تجلياته هو نتيجة لسوء سياسات متعددة. أما المسألة الثانية، فهناك إرهاب داخلي قد ينشأ عن طريق مجموعات سياسية، وهناك إرهاب عابر للقارات، لا يعتد بالحدود، وهناك إرهاب غربي دولي متواجد قدم الزمان. ومن بين هذه المجموعات الفئة الأولى التي تتمثل في الحركات الإسلامية الجهادية. وعموما بالنسبة للحركات الإسلامية يجب التمييز بين ثلاثة أنماط ومشارب رئيسية في العمل السياسي الحركي: (وأتعمد ذكرها هنا لأن الحركات الجهادية قد تخرج حتى من النوع الثاني). هناك الحركات الإسلامية الدعوية، التي ترفض الانخراط في العمل السياسي الشرعي، مقابل اشتغالها حصرا في العمل الدعوي، كجماعات "الدعوة والتبليغ". وهناك الحركات الإسلامية التي تراهن على العمل السياسي، إما التصاقاً بالعمل الدعوي أو موازاة معه، كما هو قائم مع ما يصطلح عليه بأحزاب الإسلام السياسي وهذه الأخيرة، إما أحزاب تكيفت أو بدأت تتكيف مع المجال السياسي العام بمفاهيمه داخل العلوم السياسية المقارنة كما هو حال مع حزب "العدالة والتنمية" في المغرب ونسبياً مع حزب "النهضة" في تونس، أو لم تتكيف ويصعب عليها ذلك كما هو شأن "الإخوان المسلمين" في مصر. وهناك أخيراً نموذج الحركات الإسلامية "الجهادية"، التي تراهن على العمل "الجهادي" ضد الجميع. المشكل الإرهابي يأتي من النموذج الثالث، وقد يأتي من النموذج الثاني، فها هو الشيخ القرضاوي في تصريح أخير له يؤكد "أن زعيم تنظيم داعش أبو بكر البغدادي كان في سن الشباب من "الإخوان المسلمين"، ولكنه كان يميل إلى القيادة، وأغرته «داعش» بالقيادة بعد خروجه من السجن...." بمعنى أن الأحزاب الإسلامية قد تفرخ نوعا من هؤلاء الملوثة عقولهم. ثم إنه يصح لنا سيرا على نهج الدكتور عبد الإله بلقزيز أن نقول بأن فرضية لزوم الدولة للدين فرضية زائفة، بل خطيرة إن نحن أخذنا في الحسبان أن الدين، في هذه الحال، يختزل في مذهب بعينه بوصفه "الصحيح" و"القويم" في الإسلام. وهي أخطر حين ينشق هذا المذهب الواحد إلى فريقين أو أكثر؛ كانشقاق السنة إلى معتدلة أو وسطية، وإلى "إخوان" وسلفية، وسلفية جهادية، وصوفيات بعدد الطرق الصوفية، وانقسام الشيعة إلى إمامية، وزيدية، وبقايا الإسماعيلية، وانقسام الإمامية منها اليوم، إلى مؤمنة بـ"ولاية الفقيه" ورافضة لها. فأي إسلام هذا الذي ستقوم الدولة بإنفاذ أحكامه في المجتمع والمسلمين؟ وهل "إسلام الدولة" أو "إسلام الحزب السياسي" هو عينه إسلام المجتمع والشعب؟‏?! ?فالحديث ?هنا ?يا ?سادة ?عن ?معالجة ?الأزمات ?من ?جذورها ?لا ?من ?نتائجها ?تجعلنا ?مع ?الزميل ?عبد ?الإله ?بلقزيز ?نطلب ?تدخلاً ?محموداً ?من ?الدول ?خلافاً ?للتدخل ?المزعوم ?الذي ?يمكن ?أن ?يتحدد ?في ?أشكاله ?الثلاثة: ?المماهاة ?بين ?الدين ?والدولة، ?التدخل ?الإلحاقي- ?الاستثنائي (?للدولة ?اتجاه ?الدين) ?والتدخل ?الإقصائي ?النابذ، ?وعلى ?الدولة ?أن ?تنهض ?به ?ضماناً ?للمبدأ ?عينه، ?هو ?منع ?استغلال ?الدين ?في ?السياسة ?والصراع ?السياسي، ?منها ?هي -كدولة- ?من ?ذلك ?منع ?القوى ?السياسية ?في ?المجتمع ?من ?إتيان ?ذلك ?الاستغلال ?تماما ?كما ?يمكنها ?أن ?تمنع ?نفسها ?مثلا، ?من ?انتهاك ?حقوق ?الإنسان ?أو ?العداء ?على ?الحريات ?العامة، ?ومنع ?قوى ?المجتمع ?من ?الأمر ?عينه. ?إن ?تدخل ?الدولة ?في ?الشأن ?الديني ?في ?هذه ?الحال، ?تدخل ?لصالح ?المجتمع ?ولصالح ?الدين ?وليس ?ضدهما، ?وهو ?ما ?يبرر ?لنا ?تسميته ?بالتدخل ?المحمود، ?وكل ?عام ?وأنتم ?في ?ألف ?خير.