ما بعد عرفات
رحم الله أبا عمّار رحمة واسعة وأنزله منزل صدق مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. لقد شغل أبوعمار الدنيا حتى بعد مماته كما شغلها في حياته وطوال مسيرته الطويلة القاسية مناضلاً من أجل وطن فلسطيني عزيز وسيد، مجسداً حلماً فلسطينياً وعربياً ظلت أجيال من المناضلين والشهداء تحفظه وتحتفظ به في حدقات العيون وفي صميم الأفئدة وترى فيه أمانة المسؤولية التي حملتها إياها الأقدار...
لقد رحل أبوعمار عن هذه الدنيا مخلفاً إرثاً سيظل ملكاً مشاعاً لهذه الأمة بكل ما فيه من سلبيات وإيجابيات، لكن سيبقى السؤال المشروع الآن: ما هو مصير القضية الفلسطينية وفي أي اتجاه ستسير، فالقائد التاريخي قد رحل لكن القضية ما زالت وستظل موجودة وحية كما الشعب الفلسطيني...؟ هذا السؤال ماذا بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات هو اليوم الشغل الشاغل للعالم بأسره بما فيه من خصوم وأعداء وما فيه من أصدقاء وأشقاء للفلسطينيين.
لقد أجمل رئيس الوزراء البريطاني الموقف في كلمات عندما قال أمام البيت الأبيض إن النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي (اقرأ القضية الفلسطينية) "هي أخطر قضية تواجه المجتمع الدولي اليوم". وذلك إلى حد كبير قول صحيح.. فالمجتمع الدولي الذي اتخذ قرار التقسيم ومنح إسرائيل شرعية الوجود وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية لن يعود بوسعه أن يتجاهل مسؤولياته تجاه الفلسطينيين الذين ظلوا هم الضحايا دائماً لاختلال المقاييس والمكاييل الدولية في صراعهم الممتد من أجل تحرير أرضهم وإقامة دولتهم المستقلة.. فلن يتحقق سلام ولا استقرار ليس في الشرق الأوسط وحده ولكن للعالم كله ما دامت القضية الفلسطينية تعامل بهذا الظلم وما ظلت إسرائيل سادرة في غيها واحتلالها للأرض الفلسطينية ومحاولاتها لإبادة الشعب الفلسطيني.
ثمة أصوات في العالم (ومن بينها مع الأسف أصوات عربية منكرة) ظلت تردد في أيام الحزن والحداد على الرئيس الراحل أن الطريق إلى التفاوض والسلام بين إسرائيل وفلسطين قد "فُتح" برحيل الرئيس عرفات "المتشدد" الذي كان يرفض السلام مع إسرائيل.. ويعلم الذين ظلوا يرددون العزف على هذه المقولة الإسرائيلية-الأميركية، أن ذلك قول مردود، فالعقبة أمام حل عادل وشريف "للنزاع الفلسطيني-الإسرائيلي" لم يكن الرئيس عرفات، ولم يكن "موقفه المتشدد" موقفاً شخصياً ولا ذاتياً.. العقبة ظلت وستظل هي تلك العقلية الصهيونية الامبريالية التي ظلت وستظل ترفض إلى زمن ليس قريب حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم المستقلة وفي تحقيق وجودهم الوطني على أرضها.. وتصور أن هنالك من القادة الفلسطينيين "معتدلاً" يمكن أن يقبل التنازل عن هذا الحق المشروع تصور باطل وواهم، لأنه حتى إن وجد ذلك "المعتدل" فليس بمقدوره التنازل عن الحق المشروع للشعب الفلسطيني الذي ظل في حياة عرفات وبعد مماته يؤكد للعالم تمسكه بحقه في الدولة والعودة يتساوى في ذلك "المعتدلون والمتشددون".
إن السؤال الآن -وبعد رحيل عرفات كما كان في حياته- يعود إلى المجتمع الدولي وإلى الولايات المتحدة وإسرائيل بصفة أخص.. هل حقاً يريدون "شريكاً فلسطينياً شريفاً" يشاركهم بإرادة شعبه الحرة في صنع السلام أم يريدون "متعاوناً" يرضخ لشروطهم وإرادتهم لحل لن يكون عادلاً ولن يكون مقبولاً لا من الشعب الفلسطيني صاحب الحق الأول، ولا من الأمة التي تعتبر قضية فلسطين هي قضية وجودها وذاتها.