ألمانيا بعد ربع قرن على سقوط جدار برلين
في التاسع من نوفمبر، ستحتفل برلين بالذكرى الخامسة والعشرين لسقوط الجدار الذي قسّم المدينة لفترة طويلة من الحرب الباردة. في ذلك الوقت، كانت صور مكسّري الجدار الفرحين تؤشر على نهاية الشيوعية. واليوم، وبعد مرور ربع قرن، يبدو أن ذلك الحدث كان أيضاً مقدمة لميلاد برلين جديدة وصعود ألمانيا باعتبارها القوة العظمى في أوروبا.
هذا التحول المذهل ينطوي على العديد من المفارقات التاريخية الحتمية. فمواهب ألمانيا الثقافية والسياسية والعلمية العظيمة جعلتها في يوم من الأيام مرشحة لتكون الدولة الأعظم في أوروبا؛ ولكن ألمانيا راحت تنتج أسوء نوع من الإمبريالية الأوروبية وكادت تتسبب في دمار أوروبا نفسها. وهو ما يفسر ربما لماذا بثت فكرة إعادة توحيد ألمانيا، عقب سقوط جدار برلين، الرعب في نفوس الزعماء البريطانيين والفرنسيين. فقد ذكرت رئيسة الوزراء البريطانية الراحلة مارجريت ثاتشر في مذكراتها كيف أنها أخرجت من حقيبتها اليدوية الشهيرة خريطة لتري الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران "الأشكال المتنوعة لألمانيا في الماضي، والتي لم تكن تبعث على الاطمئنان كلياً بشأن المستقبل".
ميتران، الذي بدا متأثراً، قال إن "فرنسا كانت دائماً تقيم علاقات خاصة مع بريطانيا في لحظات الخطر الداهم في الماضي" مضيفاً أنه يشعر بأن مثل هذا الوقت قد أتى من جديد. ومن جانبها، خلصت ثاتشر إلى أنه "على الرغم من أننا لم نجد الوسائل.. فإننا على الأقل كنا نملك الإرادة لكبح جماح القوة الماحقة الألمانية. وتلك كانت بداية".
وهي ما زالت كذلك في الواقع. ففي برلين، التي منها أكتبُ هذا المقال، يدفع هذا الموقف البريطاني- الفرنسي إلى قراءة حزينة للأحداث اليوم. ذلك أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية قلما كانت فرنسا وبريطانيا جد منقسمين مثلما هما عليه اليوم؛ كما أن "أسهمهما" الدولية لم يسبق أن كانت أكثر تدنيا مما هي عليه اليوم. فبريطانيا تبدو اليوم سجينة نقاش صبياني غير ناضج حول الهجرة والاتحاد الأوروبي. ويبدو كما لو أن حزب "الاستقلال" البريطاني بات هو الذي يحدد الأجندة الوطنية؛ حيث رد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كامرون على صعود حزب "الاستقلال" بالتهديد بمواجهة المهاجرين من الاتحاد الأوروبي بدلاً من أن ينبري للرد على ادعاءات حملة التخويف التي يقودها الحزب اليميني في بلاده. كما أن مطالبته بفرض قيود على حرية التنقل داخل أوروبا – وهو مبدأ مقدس في بروكسل – يمكن أن يمكن أن يساهم في إسقاط الاتحاد الأوروبي.
ومن جانبه، يبدو الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند، المتأثر بفضيحة خاصة وانتكاسات اقتصادية، بلا حول أو قوة أمام زعيمة حزب الجبهة الوطنية "اليمين المتطرف" مارين لوبين. وفي وقت سابق من هذا العام، اضطر رئيس الوزراء الفرنسي "مانويل فالز" للتأكيد على فرنسا "دولة عظيمة"، ملمحاً إلى أن بلاده ليست مضطرة على غرار البرتغال، مثلًا، للتقيد بقواعد الاتحاد الأوروبي بخصوص عجز الميزانية.
وفي الأثناء، أضحت ألمانيا ثاني أكبر دولة مهاجرين في العالم. فسكان برلين المختلطين، الذين يضمون الآن مهاجرين يهود من إسرائيل إضافة إلى أتراك وعرب، منخرطة في تجربة أوروبية في التعايش. أما الحزب المتشكك في أوروبا داخل ألمانيا، فيمثل مصدر إزعاج هامشياً.
"ثاتشر" و"ميتران" لم يكونا يتصوران أن تصبح أوروبا منقسمة وغارقة في الأزمة مثلما هو حالها اليوم، ولم يكونا يتصوران أبداً أن تصبح ألمانيا زعيمتها الممانعة. صحيح أن زعامة ألمانيا داخل أوروبا قد لا تدوم للأبد؛ فهي غير محبوبة كثيراً في بلدان مثل إسبانيا واليونان، وما على المرء إلا أن يبدأ محادثة حول ألمانيا - مثلما فعلتُ في برشلونة مؤخراً - حتى يلمس كماً هائلًا من مشاعر الاستياء والارتياب.
وفي الداخل، شهدت ألمانيا للتو أكبر إضراب عمالي منذ سنوات طويلة تسبب في شلل خدمات القطارات عبر البلاد. هذا في وقت أخذ فيه الإنتاج الصناعي ينخفض وأجواء عدم اليقين بشأن النمو الاقتصادي الصيني تلوح في الأفق. كما أن العنصرية ما زالت تمثل مشكلة كبرى. ثم إن ألمانيا تواجه أيضا أسئلة جديدة أكثر إلحاحاً في الخارج، مثل: ما الذي ينبغي فعله بشأن القوة الماحقة الروسية؟ أو بشأن زعماء اليمين المتطرف في المجر المجاورة، الذين يسخرون بكراهيتهم للأجانب وحبهم الصريح للاستبدادية وفق الأسلوب الصيني من مُثل الاتحاد الأوروبي وقيمه.
غير أنه بدلاً من أن ينتهي في 1989، ربما يكون التاريخ بصدد تقديم إحدى حلقاته الأكثر إثارة للسخرية اليوم؛ حيث تجد ألمانيا نفسها اليوم مضطرة لتحمل مسؤولية غير متوقعة لم تسع وراءها. وبعد أن كادت تدمِّر أوروبا في يوم من الأيام، فإنه ينادى عليها اليوم لتهب لإنقاذها.
------
بانكاج ميشرا
محلل سياسي هندي
-------
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"