يتفق معظم المراقبين أن العمليات العسكرية الأميركية لتصفية المقاومة العسكرية في الفلوجة والموصل وغيرهما من المدن العراقية لن تنجح في استئصال المقاومة بل ولن تحقق هدفها المباشر وهو تأمين انتخابات ذات صدقية في العراق. ولكن النتيجة المعاكسة قد لا تقل أهمية وهي أن آمال المقاومة العسكرية في تحقيق نصر سياسي أو عسكري سيكون أبعد وأصعب من أي وقت مضى وأن تكلفة الحرب الدائرة في العراق ستزيد كثيرا رغم أنها مريعة بالفعل. وهذا هو تحديدا ما يعنيه المراقبون عندما يؤكدون أنه لا يوجد حل عسكري للمسألة العراقية. فالولايات المتحدة لن تنتصر في العراق ولكنها بالمقابل قد لا تهزم، والمقاومة يستحيل تصفيتها ولكن يتعذر أن تحقق انتصارا عسكريا يوحد العراق ويبشرها بمستقبل ديموقراطي أو مقبول ممن يحبون هذا البلد العظيم والذي تدين له الانسانية بكثير من انجازاتها العقلية والابداعية عبر تاريخ الحضارة.
يشعر أي عربي أصيل بالأسى العميق للخسائر التي ألمت بالعراق. وفي الوقت ذاته لا يسع أي عربي يفكر تفكيراً سليماً سوى استنتاج أن جانباً مهماً من تفسير النتائج المأساوية للعمليات الأميركية في الفلوجة يعود الى تبني المقاومة لمدرسة صدام حسين في المقاومة وفي السياسة معا.
إن أهم سمات المدرسة الصدامية في السياسة هي النظر الى السياسة باعتبارها معركة يفوز فيها طرف واحد فقط اذا ما آمن ايمانا أسطوريا بالنصر وشق طريقه بالعنف المطلق الى غاية منتهاه وبتركيز كامل على أنه يملك الحق والحقيقة فلا يلين ولا يتراجع ولا يقبل نقدا أو مراجعة أو قيودا من أي نوع ويباشر كل شيء لتدمير الخصوم معنويا وماديا دون النظر لأي اعتبار آخر سوى النصر حتى لو أدى الأمر للمخاطرة بنهاية الحياة ودمار البلاد والعباد. ولذلك تبنت المقاومة التي تعتبره قائدها أو تستلهم مدرسته في السياسة استراتيجية تشي بنفس تلك المبادىء الإيمانية والإجرائية. فالعنف المطلق هو المبدأ الأساسي الى درجة العمل على تدمير العراق وجعل المقاومة ظاهرة سيئة السمعة في نظر العالم أجمع ونسبة كبيرة من العراقيين بسبب العصف الكامل بالمبادىء الانسانية التي تنظم الحرب، وهو ما يؤكده القتل والتشويه العمدي لجثة السيدة مارجريت حسن.
ويتجه العنف الى تقويض بنية السلطة التي أقامها الأميركيون عبر حملة اغتيالات تشمل عددا مذهلا من الأشخاص، ومتابعة عمليات الاغتيال لكل من يمكن الوصول اليه من الكوادر السياسية والادارية للسلطة الجديدة، ووقف عملية إعادة الاعمار، وشل جميع جوانب الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتخريب ركائزها المؤسسية ومرافقها وبنيتها الأساسية حتى لو كانت مسيسة الصلة بالحياة اليومية للمواطنين لمجرد اثبات الفشل الكامل للأميركيين والسلطة الجديدة، ووضع قوات البوليس والحرس الوطني بل والمواطنين العاديين فضلا عن الرموز الكبرى للأديان الأخرى والأجانب بغض النظر عن انتماءاتهم ومواقفهم أو مواقف بلادهم السياسية من العدوان الأميركي في قلب قائمة الاستهداف. فقتلهم بأعداد كبيرة يمثل أحد أهم محاور وأبعاد تلك الاستراتيجية. ولا يعني ذلك إهمال العمل العسكري ضد قوات الاحتلال. وتدرك المدرسة الصدامية في المقاومة أن من الصعب تحقيق انتصار عسكري سريع ضد القوات الأميركية والبريطانية المتفوقة تجهيزيا. ولذلك يتم حصر الهدف في المرحلة الأولى على هز ثم بعثرة التحالف الدولي بتركيز الضربات في البداية على الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى والأطراف الصغيرة في هذا التحالف لعزل الولايات المتحدة وبريطانيا، وضرب مؤخرة تلك القوات وخطوط امداداتها، والقيام بعمليات تستهدف إهانتها في وسط المدن الرئيسية وخاصة بغداد والهبوط بمعنوياتها الى الحضيض بما يؤثر بنهاية المطاف على الادارة الأميركية التي تضطر للاعتراف بالهزيمة السياسية ومن ثم الانسحاب السريع.
وقد حققت هذه الاستراتيجية بعض النجاح من منظور المدرسة الصدامية في المقاومة. فقد شلت الحياة في العراق وأثارت فوضى أمنية كاملة أطاحت باحلام الأميركيين في حصد ثمار الانتصار العسكري الذي تحقق في عملية الغزو والاحتلال وفرضت عليه التصرف بما يتفق مع الجدلية التاريخية المعروفة للمقاومة والبطش الاستعماري. فكل عملية استعمارية لتصفية المقاومة تؤلب السكان وتضيف كراهية جديدة للاحتلال والاستعمار وهو ما حدث في العراق بالفعل خلال العام الماضي. وقد ظهرت تلك الجدلية بصورة أسرع في العراق عنها في التجارب الأخرى.
ولكن نتائج تلك الاستراتيجية ليست بحال نجاح كامل بل قد لا تكون نجاحا على الاطلاق. ويبدو الفشل واضحا في النتائج التالية. أولا: الفشل في مد جسور التحالف الوطني بما هو أبعد من المثلث السني. ومن المثير بالفعل أن المدرسة الصدامية في المقاومة لم تنجح في الإفادة من جدلية المقاومة والبطش الاستعماري المعروفة في التجارب الأخرى للتحرر الوطني. فرغم انتشار الرفض والكراهية للاحتلال في نفوس المواطنين العرب والأقليات الصغيرة فالأكثرية من الطوائف غير