الغزو الصهيوني بالمعنى الحديث حركة استعمارية مرتبطة بتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر، والذي تعد الصهيونية الحديثة أحد نتائجه. فالصهيونية حركة سياسية ترتكز على مبررات دينية وتعبر عن حال أوروبا في القرن الماضي حين كانت الروح السائدة هي الرومانسية والعودة للأصول والأحلام الطوباوية. صاغت الأقلية اليهودية الانفصالية في الغرب أيديولوجية لها في ذلك الجو، وزادت عليها المبررات الدينية التاريخية نظراً لامتدادها في التاريخ ورغبتها في الاتجاه نحو الشرق ونحو السواحل لاحتلال الأرض المتاخمة لها. صحيح أن المبررات الدينية للصهيونية لها جذورها في التوراة، لكن ذلك لم يكن صهيونية بالمعنى السياسي الحديث بل كانت «نزعة الخصوصية» الغالبة على التراث اليهودي، وهي نزعة تقوم على العرق والشعب والميثاق والاختيار والوعد، والأرض.. إلخ. وفي مقابلها النزعة العامة التي تجعل الشعب اليهودي مثل باقي الشعوب، وتركز على الإيمان والعمل الصالح والطاعة والتوحيد، والتي كان الإسلام خاتمة مراحل التعبير عنها. غلبت النزعة الأولى في التوراة قديماً وتحولت إلى مبرر ديني للصهيونية في العصور الحديثة. والغزو الثقافي الصهيوني جزء من الغزو الثقافي الغربي العام الذي تعرضت له البلاد العربية إبان الحقبة الاستعمارية، فارتباط الصهيونية بالغرب جعلها إحدى الأيديولوجيات الغربية التي تعتمد على مبررات دينية وقومية. وهو موضوع جديد بدأ العلماء العرب البحث فيه والتنبيه على مخاطره، بصرف النظر عن مراحله القديمة أو الحديثة. ويصعب في مثل هذا الموضوع التمييز بين العلم والسياسة، بين التاريخ الموضوعي والالتزام القومي، لكن يكفي تقديم خطة بحث قومي من أجل تحويل هذا الموضوع إلى جزء من المشروع القومي العربي العام في التحرر والنهضة. وهناك أنماط عديدة للغزو الصهيوني للتراث الإسلامي تتوقف على طبيعة العلاقة بين التراث اليهودي وتراث الشعوب القديمة والحديثة. فقديماً حدث غزو صهيوني للحضارات القديمة عن طريق النهب والسلب، كما حدث مع الحضارة الكلدانية في فلسطين والديانة المصرية في مصر والحضارة الآشورية والبابلية فيما بين الرافدين. الغزو هنا لا يعني هيمنة ثقافية من شعب غالب على ثقافات شعوب مغلوبة، بل استيلاء بالقوة من شعب غالب على تراث الشعوب المغلوبة. وهناك نمط آخر من الغزو تمثل في تسرب الإسرائيليات (الخرافات اليهودية) إلى تلك الثقافات. هذا الغزو يمثل نوعاً من المقاومة الثقافية السرية للحضارات الجديدة الناشئة دون وعي منها. فالمؤرخون المسلمون، خاصة المفسرون، هم الذين وقعوا ضحية هذا التسرب في لحظة جمع المعلومات دون التحقق من صدقها. وهناك نمط ثالث للغزو وهو الذي اشتهر في العصور الحديثة وهو تشويه الثقافات غير اليهودية، بما في ذلك الثقافات الأوروبية، وتغلغل الغزو الصهيوني إلى مراكز الأبحاث اللغوية والثقافية والحضارية من أجل الاستيلاء على ثقافات الشعوب وحضاراتها وإرجاعها إلى الحضارة اليهودية. حدث ذلك في الاستشراق الأوروبي، وفي الفلسفات والمذاهب الغربية التي روجت للخصوصية والنعرات القومية حتى يكون لليهودية نصيب، كما روجت للمذاهب الاشتراكية والأممية حتى يسهل لليهود السيطرة. وقد وجدت الصهيونية الحديثة مبرراتها الدينية في أيديولوجية الغزو القديمة التي تقوم على عقائد الأرض، والوعد، والميثاق، والاختيار. فمن أجل أن تنتصر القبائل العبرانية على غيرها من القبائل السامية، ومن أجل الاستيلاء على أرضها، صاغت السلاح العقائدي، ونقلت بعض العادات اليهودية من المستوى الاجتماعي إلى المستوى الديني؛ فتحول حلف القبائل إلى حلف بينها وبين الله، حلف أبدي يعطيها الله فيه النصر والأرض والمعبد والهيكل.. دون مقابل! كما أصبحت حروبها «حروب الرب»، وجيشها «جيش الرب»، وانتصارها «انتصار الرب»! ووضعت هذا الميثاق في «تابوت العهد» تحمله في الحروب وتدافع عنه. وبالإضافة إلى صياغة العقائد من العادات السامية كسلاح أيديولوجي للعبرانيين في غزوهم للقبائل السامية الأخرى، استولى العبرانيون على عقائد القبائل السامية الأخرى وأدبهم وأدخلوا كل ذلك ضمن العقائد العبرانية وآدابها. تكوّن التراث اليهودي من هذين المصدرين، لكن المصدر الثاني كان هو الغالب. وبذلك يكون الغزو الثقافي لاحقاً للغزو العسكري، وكأن الاستيلاء على الأرض يعقبه امتصاص الروح، وتفريغها من كل مضمون خاص بها. وفي هذه الحالة يظهر أثر المغلوب في الغالب وكأن الهزيمة العسكرية للشعوب المغلوبة تتحول إلى نصر ثقافي بتغلغل ثقافتها في الشعب المنتصر. وقد ظهر ذلك في الغزو اليهودي للقبائل السامية القديمة، وفي أثر الحضارات السامية القديمة في تكوين العقائد اليهودية وآدابها.