من بين جميع المشاهد التي رأيتها خلال زيارتي القصيرة للعراق الأسبوع الماضي هناك مشهدان يبرزان أكثر من غيرهما. المشهد الأول هو ذلك العرض الذي أعدته وحدة "المارينز" الرابعة والعشرون، المتواجدة في المثلث السني، لرئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال "ريتشارد مايرز". كان هذا العرض عبارة عن طاولة مغطاة بقنابل على هيئة هواتف نقالة موصولة بمتفجرات، قال لي أفراد تلك الوحدة إن تلك الهواتف قد جرى تعديلها بحيث أصبح كل ما يتوجب على المتمردين عمله عند مرور دورية أميركية هو الاتصال برقم الهاتف الملقى على جانب الطريق كي ينفجر في تلك الدورية. كان منظر الطاولة التي تم عرض تلك الهواتف المتفجرة عليها، أشبه بمنظر محل لبيع الإليكترونيات المعفاة من الرسوم، مقام على بوابة الجحيم... أو هكذا بدا لي الأمر.
المنظر الثاني هو ذلك الإيجاز العسكري الذي قدمه الجنرال "جون ساتلر" في الفلوجة، والذي قام فيه بشرح الطريقة التي قامت بها عناصر من "المارينز" والقوات الجوية ووحدات من البحرية الأميركية بتنفيذ المهمة التي كلفوا بها في مدينة الفلوجة كقوة واجب مشتركة، على أفضل وجه. وعندما كان الجنرال "ساتلر" يتحدث حانت مني التفاتة إلى الجنود الأميركيين الذي ملأوا القاعة. كان هؤلاء الجنود من كل جنس ولون تماماً مثل فلك نوح: أميركيون من أصل أفريقي، وأميركيون بيض، وأميركيون من أصول لاتينية، وآسيويون ورجال ونساء من كل دين وملة. والحقيقة التي يمكن أن نأخذها على أنها أمر مسلم به هي تلك الثقة القائمة بين هذا الخليط الكبير من المجموعات العرقية المختلفة الذين وحدتهم فكرة أميركا، وعدم وجود تنافس أو حساسيات بين الجيش والبحرية الأميركية كما كان يقال دائما وأن ذلك التنافس لو وجد فإنه لا يزيد على ذلك التنافس الذي نشهده في مباراة لكرة القدم وهو ما يدل على عظمة ما يمكننا أن نطلق عليه "المعجزة الأميركية". وهذه المعجزة، وما تمثله من أهمية تصفعك في وجهك عندما يخبرك شخص ما بأن وحدة الشرطة العراقية الجديدة في قرية بالقرب من الفلوجة تتكون من عناصر تنتمي إلى قبيلة معينة، وأن وحدة الحرس الوطني الجديدة بها تتكون من عناصر تنتمي إلى قبيلة أخرى. حينها ستبدو لك بوضوح عظمة أميركا التي تصهر الجميع بصرف النظر عن جنسهم أو ملتهم.
إن ما يربط بين هذين المشهدين اللذين رأيتهما في العراق، هي تلك الحقيقة التي لن نمل من تكرارها، وهي أننا نحاول أن نغرس بذور حكومة لائقة تقوم على التوافق والإجماع، في بيئة شديدة الجدب والجفاف. وأن ما نقوم به في العراق ليس عملية بناء أمم، لأن بناء الأمم يفترض أولا أن هناك أمة واحدة متماسكة كانت قائمة من قبل، وأن كل ما يتطلبه الأمر منا هو أن نقوم بإعادة بنائها مجدداً.
إن ما نقوم به في العراق في الحقيقة هو عملية خلق أمم. إننا نحاول رعاية أول محاولة في العالم العربي المعاصر لقيام شعب عربي، بصياغة عقد اجتماعي جديد بين عناصره المختلفة... معتمداً في ذلك على ذاته.
وعلى الرغم من جميع الأخطاء التي ارتكبناها في العراق، فإن ما نقوم به في هذا الشأن يعد أمراً نبيلا للغاية. ولكن العراقيين يجب أن يعلموا جيداً أنه كي يتسنى لهم أن يقوموا بصياغة هذا العقد الاجتماعي، وهذا الدستور، فإنهم في حاجة إلى التحلي بالحد الأدنى من التسامح والاحترام لحقوق الأغلبية وحقوق الأقليات، وهو الشيء الذي لا أراه موجوداً في الأعراف الاجتماعية السائدة في هذا البلد.
بيد أنه يتوجب علي الاعتراف بأنني قد رأيت مسرحية مماثلة للوضع الحالي في الماضي. فمنذ خمسة عشر عاماً ونيف، ألفت كتاباً حول الصراع العربي الإسرائيلي احتوى على فصل كامل عن "المارينز" في بيروت عام 1982. وقد وضعت عنوانا لذلك الفصل هو:"بيتي كوكر في جحيم دانتي". كان اختيار هذا العنوان يمثل طريقتي في شرح التناقض القائم بين النوايا النقية لهؤلاء "المارينز" الذين كانوا يحاولون إعادة تشكيل لبنان في شكل حكومة لائقة أكثر ديمقراطية، وبين الجحيم الذي كان يمثله لبنان في ذلك الوقت.
بيد أن هذا لا يعني أن الثقافات لا تتغير، فهي قابلة للتغير بالفعل ولكن الأمر يحتاج إلى وقت. وإليكم نصيحتي: الأمر في العراق سيحتاج إلى سنوات طويلة لخلق حكومة لائقة في هذا البلد. وفي كل مرة أرى شيئاً يوحي لي بأن هذا الهدف لن يتحقق، أعود فأقول لنفسي: من يدري فلعل المسرحية تنتهي نهاية مختلفة هذه المرة.
العناوين الرئيسية للصحف الأميركية الأسبوع الماضي كانت كلها عن الفلوجة. ولكن أهم رواية خبرية في العراق في رأيي هي أنه في الوقت الذي كانت الفلوجة تشتعل بالنيران، كان هناك 106 ما بين حزب وفرد عراقي قد قاموا بتسجيل أسمائهم للمشاركة في الانتخابات المقبلة.
أما الرواية الخبرية التالية لذلك في الأهمية، فهي تلك الطريقة الهادئة نسبياً التي تقبل بها العراقيون والعالم العربي الغزو الأميركي للفلوجة. والسبب في ذلك في رأيي يرجع إلى أن المتمردين قد قاموا بقتل المئات من العراقيين المسلمين في ال