في غضون ساعات قليلة احتل نبأ اختطاف "مارجريت حسن" الإدارية في "منظمة كير الإنسانية" عناوين الأجهزة الإعلامية في جميع أنحاء العالم. ولكن ما لا يحظى بهذا القدر من الاهتمام أن المئات إن لم يكن الآلاف من العراقيين قد تم اختطافهم خلال العام الماضي. وقد يبدو أن الهدف من عمليات الاختطاف هو الحصول على الأموال أو نشر الرعب والخوف أو إشاعة الاضطرابات والفوضى. ومهما اختلفنا على ذلك فإن النتيجة واحدة وهي أن العراق قد تحول مكاناً للاختفاء أو دفع الفدية أو قتل أعداد لا تحصى من البشر. ثم جاء نبأ إعدام "مارجريت" ليصيبنا بالصدمة، فقد كانت صديقة عزيزة وزميلة لنا في مجال المساعدات الإنسانية الدولية. وما زلنا نتذكر لها سخاءها في تقديم المساعدات وشغفها بالقراءة وحبها للفنون بالإضافة إلى وقوفها الدائم إلى جانب العدل. وفي الوقت الذي ننعى فيه مناقب "مارجريت" نعبر أيضاً عن خوفنا الشديد على مصير أرواح العديد من الرجال والنساء الذين اختفوا في العراق.
وخلال فترة عملنا كممثلين عن اللجنة الأميركية لخدمة الأصدقاء "AFSC" في دولة العراق تسنى لنا أن نشهد ذلك التدهور الذي لحق بالمجتمع العراقي منذ الغزو الذي قادته القوات الأميركية في عام 2003. وكيف أن مجتمعاً كان يعاني أصلاً من المشاكل وجد فجأة أن الفوضى والاضطرابات يعصفان به حيث تدهورت الأحوال الأمنية الأساسية ولحق الدمار بالبنية التحتية وانعدمت المواد الطبية الأساسية تحت سيطرة قوات التحالف في تناقض صريح مع الالتزامات الخاصة بالقوات المحتلة التي نصت عليها اتفاقية جنيف. وبمجرد أن قامت قوات التحالف بشنّ الهجوم على العراق سرعان ما توافد أعضاء المنظمات الدولية للمساعدات إلى العراق بهدف تقديم المعونات والحماية للمواطنين المدنيين. وجرى تحديد هوية هذه المساعدات الإنسانية كأعمال تتسم بالحيادية الكاملة حيث إن العاملين فيها لا يحملون البنادق ولا يعملون تحت حراسة مسلحة ولا يتعاملون مع أي شخص يحمل السلاح إذ إن "المساعدات" أو "إعادة الإعمار" التي يتم تنفيذها بقوة السلاح سرعان ما تتحول بشكل "أتوماتيكي" إلى أجندة سياسية.
لذا فإن الجهود الأميركية في تقديم المساعدات وفي إعادة الإعمار -على الرغم من محدوديتها- لا يمكن فصلها بأي حال من الأحوال عن الأجندة السياسية. إن الغموض الذي بات يكتنف العلاقة بين الأجندة السياسية وأعمال تقديم المساعدات الإنسانية في العراق قد أدى إلى حدوث أعظم كارثة من نوعها تمثلت في شل وإقعاد إن لم يكن اختفاء جهود مجتمع المساعدات الدولية هناك.
وتأتي مأساة "مارجريت حسن" لتلقي الضوء بوضوح على هذه الأوضاع، فقد أدى اغتيالها إلى دفع العديد من المنظمات الإنسانية العاملة في العراق إلى التفكير في الخروج. بل إن منظمة "كير" المخدمة لمارجريت وإحدى أكثر المنظمات العاملة في العراق شهرة وفعالية قد لجأت إلى إيقاف عملياتها في العراق في 28 أكتوبر المنصرم بعد 10 أيام فقط من اختطافها. أما منظمة "أطباء بلا حدود" فقد توقفت عملياتها في العراق في هذا الشهر وأصبح من المؤكد أن منظمات أخرى ستحذو حذوها. وكانت المنظمة التي نعمل لديها قد أغلقت مكاتبها في بغداد في شهر سبتمبر الماضي عندما تم اختطاف الفتاتين الإيطاليتين العاملتين في جهود تقديم المساعدات "سيمونا باري وسيمونا توريتا". وكنا نتوقع مواصلة أعمالنا في المساعدة في تركيب معدات لتنقية مياه الشرب، وإعادة بناء العيادات الطبية الخاصة بمعالجة فقدان أعضاء الجسم. ولكن هذه العمليات كانت ستتم بمساعدة من الجهات الطبية في عمّان بالأردن. والآن فإن غياب شركائنا مثل منظمة "كير" سيجعل المهمة أكثر صعوبة. هذا مع أن العراقيين في حاجة ماسة إلى مياه الشرب النظيفة والمؤن الطبية والمساكن والمدارس، ولكن الأشخاص والمنظمات المعنية بتوفير هذه الاحتياجات بدون أجندة سياسية قد أجبروا على الهروب إثر تجدد الاضطرابات. وغني عن القول إن عدم التمكن من توصيل أنظمة تنقية المياه سيؤدي إلى وفيات الأطفال تماماً كما أن عدم تمكن المستشفيات من تلقي المؤن الطبية الأساسية سيؤدي إلى المزيد من حالات الوفيات.
لقد أصبح من الواضح أن خيار التعامل مع الأوضاع في العراق بواسطة الردع والقوة المسلحة إنما يؤدي إلى المزيد من أعمال العنف. وبدا واضحاً أن أعمال إعادة الإعمار والبناء متوقفة بالكامل في ظل الفوضى والاضطرابات السائدة في المجتمع المدني.
وكشفت دراسة جديدة نشرت الشهر الماضي في المجلة الطبية البريطانية المعروفة "لانسيت" عن دلائل تشير إلى استمرار العنف ضد المدنيين كنتيجة للضربات الجوية التي تشنها قوات التحالف على المناطق المكتظة بالسكان. ويقدر فريق من الباحثين الدوليين بقيادة "ليس روبرتز" في جامعة "جونز هوبكينز" في ولاية "مريلاند" أن نحو عشرة آلاف من المدنيين العراقيين لقوا حتفهم بسبب أعمال العنف منذ الغزو الذي تم شنه في عام 2003. ويبدو أن الأرقام أعلى بكثير مما ورد في هذه التقديرات لا سيما أنها لا تتضمن ما نتج عن