هناك جدل يتصاعد حول موضوع مناهضة الاحتلال الأميركي للعراق. السؤال الذي يحتل بؤرة الجدل هو: هل هذه المناهضة جهاد بحسب ما هو في الشريعة الإسلامية؟ أم نوع من الإرهاب تتم ممارسته باسم الجهاد؟ أحد أبرز من ساهم في هذا الجدل هو الشيخ عبدالمحسن العبيكان من السعودية. حيث تناول الموضوع في سلسلة مقالات في صحيفة الشرق الأوسط السعودية خلال شهر رمضان الماضي.
هدف الشيخ، كما يقول، هو الكشف عن حقيقة الجهاد في العراق والموقف الشرعي الصحيح منه. الإشكالية أن الموضوع أوسع وأكثر تعقيداً من ذلك بكثير. الشيخ مقتنع بأن المقاومة في العراق ليست جهاداً. لكن للتدليل على هذا الرأي كان عليه أيضاً إثبات أن هذه المقاومة خروج على الحاكم الشرعي في العراق. والسؤال: من هو هذا الحاكم الذي لا يجوز الخروج عليه؟ بالنسبة للشيخ هي حكومة العراق المؤقتة. ولا يقدح في شرعية هذه الحكومة أنها مفروضة من قبل قوات احتلال كافرة كما يرى الشيخ. والدليل على ذلك، كما قال، هو قصة النبي يوسف عليه السلام، كما وردت في القرآن، وسؤاله لفرعون أن يوليه على خزائن مصر. هنا يحتاج الأمر إلى أكثر من وقفة.
إحداها تتعلق بالآلية الفقهية التي استخدمها الشيخ لتسويغ رؤيته، وهي الآلية التي تجعل من القوة والغلب المصدر الأساسي لشرعية الحكم، وبالتالي وجوب طاعته والخضوع له. إلى أي حد يجوز الركون إلى هذه الآلية لفهم واستيعاب الحالة العراقية في هذه المرحلة، ومن ثم اتخاذ موقف بسيط ومباشر ونهائي حيالها كما فعل العبيكان؟ هذه حالة معقدة تتداخل فيها عوامل ومصالح محلية وإقليمية ودولية، مع كل ما تنطوي عليه هذه العوامل من حمولات تاريخية وسياسية وثقافية. ثم هل يجوز من الناحيتين السياسية والمنهجية توظيف هذه الآلية لتبرير احتلال بلد عربي مسلم من قبل قوات أجنبية؟ ينبغي ملاحظة أن المحتل الأميركي في العراق لا يؤمن بهذه الآلية، بل يخضع في بلده لمفاهيم وقيم سياسية تتناقض تماماً مع ما تتضمنه هذه الآلية من قيم واعتبارات سياسية أو أخلاقية. والوقفة الأخرى، تتعلق بالتناقض بين استخدام الشريعة، وهي تتجاوز في دلالتها الدينية والقانونية حدود الدولة الوطنية الحديثة، للتأكيد على أولوية هذه الدولة.
والوقفة الثالثة هي عدم مناسبة قصة يوسف عليه السلام على الإطلاق للحالة العراقية الآن، بل وتناقضها مع هذه الحالة. والوقفة الرابعة تتعلق بالاضطراب وعدم الاتساق، بل والانتقائية في الأقوال التي استشهد بها الشيخ العبيكان من بعض الفقهاء والمفسرين لدعم ما ذهب إليه. وأخيراً تجاهل الشيخ تجاهلا تاماً مواقف الدول العربية مما يحدث في العراق، قبل وبعد الاحتلال. بدلا من ذلك قصر اهتمامه على المقاومة، وما تسببت وتتسبب فيه من مضار ومفاسد. أليس هناك ما يجب قوله عن مسؤولية الدول العربية لما آل إليه الوضع في العراق، وفي فلسطين مثلا. فما يحدث في العراق من مقاومة ومواجهة لقوات الاحتلال ليس حالة شاذة كما قد يتخيل البعض. بل هي امتداد لحالة أشمل وأعم. في لبنان هناك مقاومة "حزب الله"، وفي فلسطين هناك حماس والجهاد الإسلامي، وعلى مستوى أوسع هناك "القاعدة". ربما قيل إن هذه منظمات اختلطت في أعمالها ونشاطاتها مظاهر العنف و"الإرهاب" مع مظاهر المقاومة. بل إن "القاعدة" منظمة "إرهابية" بحد ذاتها. وهذا صحيح. ولكن ماذا عن مسؤولية الدول العربية؟ أليس على الحاكم الذي لا يجب الخروج عليه مسؤولية الدفاع؟ هل تخلت الدول العربية عن مسؤولياتها مما أفسح المجال لأن تكون المنطقة مستباحة لقوات الاحتلال، ولعبث منظمات وجماعات خارجة على "ولي الأمر"، وبالتالي خارجة على القانون؟ هذه وغيرها أسئلة تجاهلها الشيخ، أو ربما أنها ليست من صلب اهتمامه. لكنها أسئلة تكشف عن مدى البساطة التي تناول بها الموضوع، وعن مدى الخطل في النتيجة التي ركن إليها في تناوله هذا.
لنأخذ قصة النبي يوسف عليه السلام، وهي القصة التي ركز عليها الشيخ العبيكان لإثبات صحة وشرعية الحكومة العراقية الحالية. يجب ابتداء ملاحظة أن الشيخ لم يعقد هنا أية مقارنة مباشرة بين الحالتين، لكنه يفترض ضمنياً أن دلالتها الفقهية تنسحب على الحالة العراقية. يستند الشيخ في استخدامه للقصة على ما قاله بعض الفقهاء والمفسرين عنها. لندع معالجة إيراده هذه الأقوال لمقالة قادمة.
ما علاقة هذه القصة باحتلال العراق، وبشرعية الحكومة المؤقتة فيه، المفروضة بواسطة قوات الاحتلال؟ فالنبي يوسف عليه السلام هو الذي ذهب إلى مصر، وهو الذي طلب من فرعون منصب الولاية على خزائن مصر. ومصر لم تكن بلداً مسلماً، أو حنيفياً يرزح تحت الاحتلال الفرعوني. ربما جاز الاستدلال بما فعله يوسف عليه السلام على جواز طلب مسلم يعيش في بلد غير مسلم للعمل تحت قوانين هذا البلد. لكن كيف يجوز الاستدلال بذلك على جواز ولاية مسلم من قبل "كافر" يحتل بلد هذا المسلم؟ كان على الشيخ أن يأتينا بمثال مشابه للحالة العراقية، ومن التاريخ الإسلامي، مثال حصل فعلياً وليس افتراضياً. ثم أليس للبون التا