ليست الرسالة الإعلامية المتلفزة في رمضان وحدها تستحق الدراسة والتحليل والنقد والتشريح، ولكن ما يسطره القلم ويبوح به الميكروفون ربما يكون أشد وطأة وتخريباً لذائقة المتلقي. ففي زمن افتقد فيه البرنامج الإذاعي للبراءة والطيبة، غزت جحافل مسلسلات الخيانة والعلاقات الشاذة الميكروفون، وتصدرت التحقيقات الخاصة بحياة النجوم ومسابقات الجمال الصفحات، حتى أن المرء يحار في طبيعة هذا الشهر وكيف أن تجار الكلمة ومستغلي الفرص قد حولوه إلى منجم ذهب لبيع التسلية والفضائح معاً، واستهبال المتلقي الصائم المكدود واللاهث خلف سراب تراب التبر وسيارة الحلم وبيت المستقبل. وإن كان لابد من أضعف الإيمان فلا بأس بتذكرة سفر إلى بانكوك لقضاء إجازة العيد أو وجبة سحور في مطعم "كوتي" في أحد الأحياء الشعبية. وهمٌ يباع ويسوق وخلفه ينساق إنسان مقهور يجري خلف سراب الوهم.
حتى لا يقال إنني أميل إلى التعميم وإنني وكعادتي أنظر إلى النصف الفارغة من الكوب، فقد أشرت في مقال سابق إلى نموذجين من الدراما التي ربما كان من الممكن عند تكثيف الرسالة فيهما أن يوجها صفعة للمقامرين وتجار المسلسلات المتشبثين بقوة بفكرة (الجمهور عاوز كده) ويؤكد أنه يمكن صناعة دراما خليجية وعربية ربما يمكنها أن تلامس حقيقة الواقع. فسياسات الشراء في المحطات القاضية بشراء الغث والسمين بالكيلو تطرح إشكالية الكم على الكيف ناهيك عن غياب سياسة قومية عربية لتوجيه خطاب إعلامي توعوي والإصرار على الخطاب الترفيهي التفريغي المنمذج.
الحديث عن الجيد من البرامج والدراما العربية هو حديث عن الشاذ والغريب والوحشي والمستهجن، في زمن الفكر التلفزيوني المرتبط بـ"نيولوك" وإنسان الهزيمة الداخلية والانصياع الكامل لفكرة الإحساس بالدونية والانكسار والتبعية والبحث عن ربطة الخبز وسرير المؤانسة. ولكن الصورة ليست بهذه القتامة، وبارقة أمل من هنا أو هناك ربما تشعل الفتيل فينساب خيط رفيع من نور في ليل معتم وروح متعبة يقتلها الشقاء وتثقل كاهلها الأنواء.
رمسة كلمة تعني الحديث المرسل من القلب إلى القلب، والرمسة حديث على السجية لا يحتاج إلى تنميق أو زخرف لفظي. رمسة هو اسم برنامج حي على الهواء اعتاد تلفزيون سلطنة عُمان على بثه منذ أعوام وهو برنامج يستحق المشاهدة والمتابعة لعدة أسباب من أهمها:
رمسة إطلالة عمانية بالإحساس والشوق والوجد، فيه عبق التاريخ ورائحة اللبان وطعم الحلوى العمانية، وعبير الياسمين وحبات الهال وزهر الرمان من على سفوح الجبل الأخضر. رمسة قوس قزح الألوان وامتزاجها في روح عمانية صرفة وأسواق شعبية تفوح من جنباتها رائحة الطين والحناء والبخور وتعبر من خلالها سفن القادمين من زنجبار وهم ينشدون للأرض:
"زمان البحر ياللي دايم ما ننساه، زينن زين يا بحر طاب ليلي معاك"
رمسة بكل عفوية وحب إطلالة على المشهد العماني بروح عمانية بعيداً عن بهرج الـ"نيولوك" الذي ابتليت به تلفزيونات الخليج الأخرى.
لم يسقط التلفزيون العماني في وحل التقليد الفج، وقرر الصمود والبقاء تلفزيوناً عمانياً خالصاً فكراً وكوادر، واستطاع من خلال برنامج رمسة وغيره أن يقول هذه عمان.
رمسة برنامج يعده شباب عمانيون ويقدمه شاب أصر على التألق منذ أعوام، وتوقعت من أول مشاهدة لهذا الشاب أن يغدو مذيعاً وإعلامياً متألقاً، وقد كان. يستطيع أن يأخذك إلى حواري وأزقة القرى العمانية الجميلة بناسها الذين يبعثون برسائل الحب إلى المشاهدين.
في سهرات رمضان هذا العام تقف صبية عمانية تتألق مفتخرة بعمانيتها إطلالة، وملابس وطرحاً. ثنائي عماني يشكل ملمحاً ثقافياً لقدرة الشباب العماني على الإبداع.
شابة محتشمة، العري ليس من مؤهلاتها ولكنها تدخل القلب بنطقها الواضح وسلامة مخارج ألفاظها وابتسامتها الآسرة، وهي تحدث جمهوراً عمانياً يتفاعل معها من على المدرجات.
رمسة كنز معلوماتي لا يستخف بعقل المتلقي ويحيله إلى عالم الوهم والسيارات وكيلوات الذهب، ولكنه حديث من ذهب. والبرنامج من الناحية الإعلامية فيه رد وصفعة لكل أولئك الذين يروجون لمقولة انعدام الموهبة والثقافة عند الإنسان الخليجي وأن صناعة الإعلام حكر على جنسيات عربية معينة! سرقت منا الكاميرا والميكروفون والقلم. خالد الزدجالي نجم برنامج رمسة الحي على الهواء مباشرة يقدم نموذجاً لا أقول متفرداً، ولكنه متميز لطاقة عمانية واعدة استطاعت أن تسرق الأضواء من نجوم الفن الذين تحول بعضهم للإعلان عن الفوط النسائية وحفاظات الأطفال، وتفتح لهم وللراقصات اللاتي تحولن إلى ممثلات ومقدمات برامج صالات الشرف في معظم المطارات الخليجية باعتبارهم رموزاً قومية وثروات وطنية. ولكن التلفزيون العماني لم يقع ضحية هذا الوهم الكاذب، بل فتح الأبواب على مصراعيها لتدريب طواقم من الكوادر العمانية لتستلم مهام ابتداع الرسالة الإعلامية ومهام تنفيذها صورة وصوتاً، فكم هو مفرح أن ترى شباباً وشابات عمانيات أمام وخلف الكاميرا في مهن تكاد تكون حكراً على الإخوة الوا