تشكل أقوال "دوف فايسغلاس" المدير السابق لديوان شارون وأحد أقرب مستشاريه إن لم يكن أقربهم لصحيفة "هآرتس" في الشهر المنصرم حدثا مهما ومحوريا في تاريخ المفاوضات العربية - الإسرائيلية التي بدأت قبل أكثر من ربع قرن. وفي هذا السياق، يقول "فايسغلاس" في تصريحاته سيئة الذكر (لكن التي لها فضل إيضاح الأمور):"إن خطة فك الارتباط مع قطاع غزة من جانب إسرائيل وحدها، تهدف إلى تجميد العملية السياسية مثلما تهدف إلى منع إقامة دولة فلسطينية، ومنع إجراء تداول في قضايا اللاجئين والحدود والقدس، وبالتالي فإن هذه الصفقة المسماة بالدولة الفلسطينية بكل ما تنطوي عليه، قد أزيلت تماما من جدول أعمالنا". والأدهى من كل ذلك، أن "فايسغلاس" نفسه "كشف" أيضا عن موافقة الإدارة الأميركية على خطة إسرائيل السرية هذه حيث قال بالحرف الواحد:"كل هذا تم بتفويض وإذن ومباركة رئاسية أميركية وتصديق مجلس الكونغرس بمجلسيه عليها". ثم تحدث "فايسغلاس" عن المستعمرات/ "المستوطنات" وموقف الإدارة الأميركية منها، فقال إنه تلقى تصديقا فعليا من الولايات المتحدة على "بعض المستوطنات، أما الباقي فلن يتم التعامل معه حتى يتحول الفلسطينيون إلى شعب مسالم كـ(الفنلنديين)" عمليا!! واستطرد فايسغلاس قائلا:"كل هذه الرزمة التي تسمى الدولة الفلسطينية سقطت من جدول أعمالنا لفترة غير محددة زمنيا... بحيث لا تكون هناك عملية سلمية مع الفلسطينيين على أساس تجميد العملية السلمية إلى أجل غير مسمى". وطبعا، "العهدة" في أقوال فايسغلاس، وبخاصة تصريحاته بخصوص موقف الولايات المتحدة، هي كليا "على الراوي"!
اتهم "فايسغلاس" صحيفة "هآرتس" العبرية بأنها قامت بتحريف أقواله التي أثارت عاصفة هوجاء تخطت كل التوقعات سواء داخل الدولة الصهيونية أو خارجها. ويقول فايسغلاس "موضحا" موقفه:"لم يكن عندنا أي قصد أو نية لتجميد العملية السلمية، ولكن كان هناك قصد حقيقي بعدم الدخول في أية عملية سلمية مع السلطة الفلسطينية بوضعها الحالي... إننا لن نجري مفاوضات مع سلطة فلسطينية لا قدرة لها على منع الإرهاب، ولهذا ومن أجل أن نعبر فترة انتقالية معينة، وحتى يكون الفلسطينيون جاهزين لعملية سلمية، تقرر طرح خطة الانفصال...". ولم يمض وقت طويل حتى أيقظ نشر هذه الأقوال الإدارة الأميركية وحدا بها للمطالبة بإيضاحات من الحكومة الإسرائيلية. وفي هذا المجال، قال وزير الخارجية الأميركي "كولن باول" إنه على "قناعة بأن إسرائيل ملتزمة بتنفيذ خريطة الطريق"، وأضاف "باول" للصحافيين:"لم يكن لدى الولايات المتحدة شك بأن خطة السلام تعكس موقف رئيس الحكومة الإسرائيلية أرئيل شارون، وموقف الحكومة الإسرائيلية كلها". وقال الناطق بلسان الخارجية الأميركية آدام آرلي: إن واشنطن أعربت عن قلقها من أقوال فايسغلاس عبر دبلوماسيين أميركيين متواجدين في إسرائيل" مؤكدا "أن الدبلوماسيين الأميركيين تلقوا إيضاحات مرضية". وقال في هذا السياق مستخلصا:"إننا ندرك بأن إسرائيل ملتزمة بخطة خريطة الطريق وبرؤية الرئيس بوش التي تستند إلى دولتين، إننا لا نرى سببا يدعو إلى الاستهتار بذلك"!
على صعيد مختلف، حركت تصريحات "فايسغلاس" الساحة الحزبية الإسرائيلية التي تعاني حاليا، في مجال التسوية السياسية، من شلل شبه كامل. فقد قال زعيم المعارضة "شمعون بيريز" إنه طلب من رئيس الحكومة أرئيل شارون توضيح موقفه من تصريحات مستشاره. وقال "يوسي بيلين"، زعيم حزب "ياحد" اليساري، "إن أقوال فياسغلاس شيء مرعب وتثبت أن شارون أعد مؤامرة للقضاء على العملية السلمية! كما يمكن تفسير أقوال فايسغلاس على أنها إعلان بأنه لا يوجد شريك إسرائيلي للعملية السلمية طالما أن شارون في الحكم". واعتبر "رون كوهين" عضو الكنيست من الحزب نفسه أن الانسحاب من قطاع غزة ومن بعد المستعمرات/ "المستوطنات" الصغيرة النائية في شمال الضفة الغربية "ليس مناورة بل عملية ستغير وجه الشرق الأوسط وغاية أرئيل شارون من هذه الخطوات إنهاء العملية السلمية إلى الأبد". أما "أوفير بنيس" من حزب العمل فقد قال معلقا على تصريحات فايسغلاس:"أخيرا خرج الحاوي من الكيس وأكد للجميع أن الانسحاب من قطاع غزة ما هو إلا خدعة، وهذه الخدعة هي الأكثر انحطاطا في تاريخ إسرائيل، لهذا يجب أن يكون ثمنها طرد شارون من الحكم وتقديم موعد الانتخابات". بل إن قادة اليمين الإسرائيلي المتطرف أنفسهم، عبروا عن عدم رضاهم من هذه التصريحات. ومن الأمثلة على ذلك، قول "تسفي هندل" من حزب الاتحاد القومي اليميني المتطرف:"إن سبب تصريحات فايسغلاس هو مساعده رئيس الحكومة في صراعه داخل حزب الليكود". ويخلص بعض المحللين الإسرائيليين إلى الاستنتاج بأن الهدف من تصريحات المدير السابق لمكتب رئيس الحكومة في هذا الوقت بالذات هو محاولة شارون التقليل من المعارضة التي يواجهها في اليمين والتأكيد لهم أنه لا يزال حليفهم الأقوى والداعم الأكبر لهم رغم قراره الانسحاب من قطاع غزة.
من المؤكد أن أرئيل شارون لم يقصد من وراء وضع خطته ا