إن إحدى سخريات التاريخ أن يحصل ياسر عرفات، على جائزة نوبل للسلام، في حين يعجز عن الحصول عليها، رئيس الوزراء البريطاني الحالي توني بلير، الذي ربما بذل أكثر مما بذله أي سياسي غيره، من أجل إعادة التطلعات الفلسطينية إلى مجراها الصحيح!
يذكر أن بلير، كان قد زار الولايات المتحدة الأميركية في مطلع شهر نوفمبر الجاري، فكان بذلك أول زعيم أجنبي تطأ قدماه أرض أميركا، وهي في غمرة أجواء الحماس، التي صاحبت إعادة انتخاب الرئيس بوش. ويعرف عن بلير أنه غامر بمصيره السياسي ووضعه على المحك، واقفا أمام موجة المعارضة العاتية في الداخل، وعازما على تأييده ومساندته للولايات المتحدة الأميركية في حربها على العراق. ومما لا شك فيه أن هذه المخاطرة، تجعل من بوش، مدينا بالكثير الكثير لحليفه بلير. كما تخرج هذه المؤازرة القوية، بلير من أي منافسات للحصول على جائزة نوبل للسلام في ذات الوقت. غير أن بلير كان مثابرا في إلحاحه المستمر على حليفه الأميركي، بلعب الدور الذي لا غنى عنه، في حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. وربما يكون هذا الإلحاح، قد سبب ضيقا للبعض في إدارة بوش، التي وضعت الملف الفلسطيني جانبا، بعد أن رفضت التعامل مع ياسر عرفات. وعلى رغم ذلك، فقد واصل بلير إلحاحه على ضرورة التدخل في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، بقدر إلحاحه وثباته على تأييد السياسات المتبعة في العراق.
ومع أن بلير وبوش يبدوان ثنائيا غريب الأطوار، كل على طريقته –غرابة بلير كرئيس وزراء عمالي، وبوش كرئيس محافظ- إلا أنهما تمكنا من إقامة علاقة شراكة أميركية-إنجليزية، تكاد تكون صورة مطابقة في كافة أجزائها وتفاصيلها، لتلك العلاقة الأولى، التي ربطت بين رونالد ريجان ومارجريت تاتشر من قبل، أو بين روزفلت وتشيرشل. وكلا الحليفين المعاصرين قد جرى تضليله –مثلهما في ذلك مثل كافة قادة العالم الآخرين- بالمعلومات الاستخباراتية الخاطئة حول أسلحة الدمار الشامل العراقية المزعومة. غير أنهما لا يبديان أسفا ولا اعتذارا، عن تخليصهما العالم، من نظام صدام حسين. وقد نعت بعض خصوم ومنتقدي بلير، هذا الأخير بأنه "كلب بوش" بسبب ترديده لذات التعابير وذات الحماس، الذي يتحدث به بوش عن تحرير البشرية. غير أن بلير، لا يعبر عن وجهة نظر أحد غيره، حين يتحدث بكل ما عرف عنه من حماس، عن حق البشرية في الحرية. وقد عبر عن وجهة النظر تلك، كما سمعناه في الكونجرس هنا العام الماضي. فقد كان صوته مفعما بالعاطفة والحماس وهو يقول حينها: إننا نحارب من أجل حق البشرية الذي لا تنفصم عراه، من أجل أن يكون الإنسان حرا من اجل ألا يركع خوفا أوهيبة أمام بشر مثله. وإنها لمعركة جديرة بأن تخاض. ويتحدث بوش بالحماس والعاطفة ذاتهما، عندما يعرض مهمته الخاصة بنشر الديمقراطية في مختلف أنحاء العالم. وأصبحت هذه المهمة، رابطا قويا بين الحليفين.
وعلى الرغم من أن البريطانيين قاتلوا لوحدهم لبضع الوقت، خلال الحرب العالمية الثانية، لتخليص العالم من خطر النازية وزعيمها أدولف هتلر، إلا أنهم لم يمنحوا بلير التفويض والدعم الموحدين ذاتهما، اللذين أعطيا لرئيس وزرائهم الأسبق وينستون تشيرشل، حين قرر بلير الإطاحة بصدام حسين. وهذا استثناء تقبله بلير على أنه الثمن الواجب دفعه، مقابل التمسك بالمواقف والمبادئ. في حديث له أجراه العام الماضي في لندن، قال: "إنني لست أسعى لتحويل اللاشعبية إلى شعار فخر على كتفي، غير أنها تكون في بعض الأحيان، ثمنا للقيادة والالتزام بالرأي".
وعليه، فإن هناك سببين يحتمان على بوش الإنصات لقرع بلير المستمر لطبول الإنذار حول المشكلة الفلسطينية. فأولا، يدين بوش بالكثير لهذا الحليف الأول، الذي تقدم صفوف كافة الحلفاء الذين وقفوا معه في حربه على العراق. ثانيا، فإن بلير يتمسك بموقفه عن حق وصواب. فهذه هي اللحظة الملائمة، التي تحتم على الجميع التحرك: الفلسطينيون، الإسرائيليون، قادة الدول العربية الأخرى، الأوروبيون، وإدارة بوش التي يتحتم عليها تسخير رأسمالها السياسي في الدفع بعملية السلام بين دولة إسرائيلية آمنة، وأخرى فلسطينية مستقلة مستقرة. فعلى الفلسطينيين وقف العنف ضد المدنيين الإسرائيليين، وعقد انتخابات من شأنها أن تسفر عن نظام ديمقراطي، يعول عليه في تحقيق الاستقرار والسلام. أما رئيس الوزراء الإسرائيلي إرييل شارون –الذي هو أبعد ما يكون عن الليبرالية- فإن عليه أن يقدم حزمة متكاملة من التنازلات، بما فيها الانسحاب العسكري من الأراضي الفلسطينية، ودعم العملية الانتخابية الفلسطينية.
مقابل ذلك، فإن الجميع يعلم مدى أهمية التدخل الأميركي في حل هذه المعضلة. وما من أحد يفترض أن هذا التدخل سيكون أمرا سهلا، أو أن يكلل بالنجاح في كل الأحوال. ذلك أن الحل يتطلب بناء تدريجيا وبطيئا للثقة بين طرفي النزاع، وإزالة جبال مهولة شامخة من الريبة والشك بين الجانبين. ولكن ما من بديل آخر لهذا، سوى الكراهية والعنف المتبادل، الذي سمم أجواء العلاقات بين الجانبين، لعدة عقود من ا