بدأت القفزة الحقيقية التي حدثت للبشرية عندما فكر الإنسان بصورة مركبة، وربط الأشياء ببعضها البعض، وكل ذلك بدأ بالزراعة وتدجين بعض الحيوانات والطيور، فحين فكر في الزراعة، بدأ في التفكير المفصل، ففكر أين يزرع، وكيف وأهمية الاستقرار وبناء منازل قريبة من مصدر العيش، ورافق كل ذلك الحاجة إلى من يبارك له تلك النعم، ويخفف عليه وطأة الموت وفقدان من يحب، ورفع روحه المعنوية للقتال والظفر بأكبر عدد من الموارد أو الانتقال لمكان به إمكانات أفضل للصراع من أجل البقاء والوساطة بين أفراد المجموعة في خلافاتهم، فكانت مهنة الكاهن أو العراف لربط العالم المرئي بالعالم غير المرئي وإيجاد آلية تفسير لِمَ لا يفسر بالمنطق العادي، فكان له حضور مؤثر ومصداقية وأهمية قصوى لدى المجموعة حتى يفهموه سبب وجودهم في هذه الحياة. وحتى لا تضيع مكتسبات ومكانة ذلك الكاهن ويضعف نفوذه، وضع لهم قواعد وقيم أصبحت قانوناً عرفياً يتبعه الجميع، وبدأ غياب الحوار التي بدأت به الحياة، وانحصر التفكير لمصلحة المجموعة في يد قلة تعرف، ما هو الأفضل والمناسب لهم. وإذا لم يطيعوا ويسمعوا طردوا بعيداً عن المجموعة حتى تجمع عدد من المطرودين من الجماعة ليشكلوا جماعة قائمة بحد ذاتها ترفض أن يكون بينها كاهن، وأصبح صوت الأقوى في الجماعة يحل محل نظام الكهونية، واخترعوا نظام تُصوت فيه الأغلبية القوية دون المستضعفين ليقود المجموعة أقواهم، وعاشوا حياتهم بدافع البقاء والانتقام من المكان، الذين طردوا منه وركزوا تفكيرهم وجهودهم ليصبحوا أقوى من الآخرين، وفي موطنهم الأصلي أصبح للكاهن سلطة أكبر وجعل أذكى أبنائه خليفته في مهنة الكهانة وأقوى أبنائه لقيادة أقوى الرجال لحماية ما يملكه، ورافق ذلك بناء سور وحصون للمدينة لحصر البشر في حيز مكاني تكون السيطرة عليهم فيه أسهل، وبالتالي تحصيل موارد أكبر بسبب زيادة الأيادي العاملة وتحديد تخصصها. فقد احتاج الإنسان للتدبير والتخطيط وتغير أسلوب الحياة والعمل اليومي وإيجاد أساليب وأدوات أكثر فعالية للحفاظ على ما يملك، والقضاء على أو منع التهديد الخارجي بكل أنواعه، فانقسم البشر إلى ملوك وكهنة وجنود ومخططين، ومفكرين وعمال ومنبوذين ومملوكين، وانتقال المدينة لمكان قريب من ممر مائي يمكن أهالي المدينة من السفر لبيع ما يملكونه أو استقبال وشراء ما يحتاجونه وتأمين تلك الممرات والسفن والطرق البحرية والبرية. وبالرغم من كل المحاولات لأنسنة الإنسان يبقى الجانب الحيواني فيه السمة السائدة والغالب على تصرفاته. فالإنسان مجبول على أن يرى الحقيقة من خلال مصلحته، ومن خلال مألوفات تحيط به حوّلها لقيم وتقاليد ومررها لجيل بعد جيل. ناهيك عن المواعظ الفكرية والدينية وغيرها التي تعارض الفطرة الإنسانية، وما أتى به البشر لاحقاً لتفسير الدين والسياسة والاقتصاد.. إلخ، كلها كانت تصلح لزمان ومكان معين فقط بما في ذلك الديمقراطية أو الاشتراكية أو المثل الأخلاقية العليا التي تلمس حق الإنسان في العيش بحرية وبعدالة ومساواة. وإذا نظرنا خلف الظاهر، والذي هو في حقيقته أمر غير ظاهر إلى في مخيلتنا وما يعكسه النور إلى أبصارنا التي تعيش في ظلام قاتم خارج نطاق انعكاس النور، وهي كالنجوم مظلمة ومعظمها لا وجود له من مليارات السنين، وكل ما نراه انعكاساً لماضي بعيد غير موجود على الرغم من أننا ننظر إليه من كوكبنا ونراه حقيقة مجردة. فالتفكير في معاني الحياة يقودنا إلى أهمية أن نعيد النظر في كل مسلماتنا ما عدا وحدانية الله وقدسية كلامه، فالإنسان مهما كان نبيلاً وطيباً وصاحب مبادئ، سيترك كل ذلك لتمسك بالحياة بالفطرة والسيطرة على المصادر، التي تضمن بقاءه قوياً وتمرير جيناته لأبنائه وأحفاده. فالناس يتجاهلون العامل الوراثي وهيمنته الخفية على سلوكيات الإنسان، وعقلنة وجوده. ولذة الاستمتاع بما تجود به الدنيا حولت حياته لصراع دائم، وتجاوزات وضع له تبريرات باسم الرب أو الفكر، فيجلس الفرد في أكثر دول العالم تقدماً المطالب بالإنسانية والعدالة وحقوق الإنسان يأكل وجبة عشاءه بعد أن شاهد مئات الأطفال قتلى وأفظع أنواع الجرائم في نشرة الأخبار، ويهز رأسه استهجاناً لحظياً، ومن ثم يشاهد مسلسل مضحك وينام قرير العين. فالعامل الوراثي الأناني هو الوحش النائم تحت جلد كل من ينتمي للبشرية، ولذلك من المهم عدم التأخر في بدأ البحث في رحلة الذات الداخلية عن معنى للحياة، والاتصال بجوهر الكائن البشري المتمثل في نقاء الروح، لتخلص من سجن الجسد والمادة. والتساؤل: هل القيم العليا فعلاً عليا أم أنها كائن حي يتلون مع الوقت والظروف ليضمن البقاء؟