تواصلا مع مقالة الأسبوع الماضي أعود إلى ما قلت إن موقف الشيخ العبيكان يفرضه من وقفات لابد منها. إحدى هذه الوقفات كانت قصة النبي يوسف مع عزيز مصر، والتي استخدمها الشيخ كسابقة تاريخية لما يحدث في العراق. وقد تحدثت في المقالة السابقة عن هذه القصة، وأوضحت كيف أنه لا علاقة لهذه القصة، لا من قريب ولا من بعيد، بما يحدث في العراق. كيف اضطر الشيخ إلى هذه القصة؟ هذا السؤال ينقلنا إلى الوقفة الثانية، وهي المتعلقة بالآلية الفقهية التي اعتمدها الشيخ في معالجته لموضوع المقاومة العراقية.
لم يكن من الجائز للشيخ العبيكان أن يستند إلى هذه القصة كسابقة تؤسس لرؤية فقهية ترى جواز ولاية المسلم من كافر. ويبدو أنه اضطر إليها لأنها الوحيدة المتوفرة له، ولأنه اختار معالجة الموضوع من زاوية دينية ضيقة، وأخضع موضوعاً سياسياً مركباً لآلية فقهية بسيطة، وهي آلية وجوب طاعة ولي الأمر المتغلب. لم يلتفت إلى الأبعاد والمعطيات السياسية المتشابكة لما يحدث في العراق. غاب عنه أن الاحتلال هو قمة العنف، وأنه لذلك المعادل الموضوعي للمقاومة. هناك إرهاب في العراق. لكن هناك مقاومة أيضاً، ووحشية للاحتلال، كما حدث في أبو غريب وفي الفلوجة، هي حافز قوي لها. وفات على الشيخ أن أخطاء الاحتلال التي كانت غالباً قاتلة ومهينة، وأن العملية السياسية تحت الاحتلال تتعثر بشكل مستمر. هناك عنف متبادل، وحكومة غير شرعية باعتراف الأميركيين أنفسهم. وهناك أيضاً انقسامات طائفية وقومية.
تجاهل الشيخ كل ذلك، وسمح لنفسه بالنظر إلى العراق من زاوية دينية محضة، ومن ثم تشخيص ما يحدث من مناهضة للاحتلال في العراق على أنه نوع من الفتنة أو الإرهاب. وبما أنه انطلق من فرضية دينية، كان عليه أن يبين الأساس الديني ــ الشرعي لإطلاق هذا الحكم، وهو المبدأ المشار إليه بعدم جواز الخروج على ولي الأمر. وحيث إن الذي يتولى الأمر في العراق الآن هو حكومة مؤقتة، فإن المبدأ ذاته ينسحب عليها، حسب الشيخ. لكن هذه الحكومة لم تأت باختيار الشعب (أو الأمة العراقية)، ولم تتغلب في إطار صراع سياسي على الحكم بين قوى عراقية، ومن دون تدخل أجنبي. ومن ثم فالآلية لا تتسع لهذه الحالة.
هل يجوز للشيخ، والأمر كذلك، استخدام هذه الآلية للحالة العراقية؟ الشيء الوحيد الذي يجيز ذلك هو أن يعيد الشيخ النظر في آليته بما يجعلها صالحة لاستيعاب ما هو بصدد معالجته. هذا يتطلب توسيع زاوية الرؤية، وتجديد المفاهيم بحيث تتسع للأحداث، والمعطيات، والعلاقات المتشابكة بينها، وبالتالي يسمح للشيخ بتخريج رأيه تخريجاً علمياً، بالتحليل والمقارنة. لكنه بدلا من ذلك أبقى على الآلية كما هي، واقتصر على إيراد مجموعة من الاستشهادات من بعض الفقهاء والمفسرين، اقتناعاً منه بأن هذا يكفي للبرهنة على صحة رأيه. وحتى ضمن هذا الإطار جاءت الاستشهادات إما انتقائية، أو تحيل إلى قصة يوسف ذاتها.
خذ مثلا استشهاداته التي نقلها عن بعض المفسرين. ليس بينها واحد يشير إلى حالة يخضع فيها بلد مسلم لاحتلال قوة كافرة، وتقوم هذه القوة بتنصيب حاكم مسلم عليها. تجيز هذه النقولات جواز طلب المسلم منصباً من كافر، والإشارة هنا دائماً لمناصب مثل الوزارة أو القضاء وليس لرئاسة الدولة. والإحالة غالباً إلى قصة يوسف. وهذه كما ذكرنا لا علاقة لها بالموضوع. الأمر نفسه ينطبق على جميع استشهادات الشيخ بأقوال الفقهاء، من مثل استشهاده بحالة "أحكام تأتي من صقلية، وقد استولى عليها الكفار وقضاتها مسلمون". فصقلية مثل الأندلس، ليست بلداً عربياً أو مسلماً، بل بلد محتل من قبل المسلمين، ولا يمكن مقارنته ببلد عربي إسلامي مثل العراق، ظل كذلك إلى وقتنا الحاضر. ثم هناك استشهاد بما قاله ابن تيمية. وعدا أنه استشهاد بما قاله شيخ الإسلام عن قصة يوسف، وفيما يتعلق بالقضاء أيضاً، إلا أنه تجاهل دور هذا الشيخ عندما تعرضت الشام لغزو التتار، وكانوا مسلمين وليسوا كفاراً.
هناك حقائق تاريخية مهمة عن الآلية التي إاستند إليها العبيكان، وكان عليه أخذها في الاعتبار. أولها أن الأخذ بهذه الآلية جاء اضطراراً وخضوعاً للأمر الواقع. فالأساس في شرعية الحكم إسلامياً هو اختيار الأمة لولي أمرها. هذا ما حدث عندما بويع الخلفاء الراشدون الأربعة. لكن ابتداءً من تولي معاوية انقلب الأمر إلى ملك عضوض، كما يقول الفقهاء. ومنذ ذلك الحين بدأ الأخذ بهذه الآلية. حيث الثابت تاريخياً أن مبدأ وجوب "طاعة ولي الأمر المتغلب" لم يتم تبنيه إلا بعد "الفتنة الكبرى"، وابتداءً من ولاية معاوية، والدولة الأموية. بعدها تراجع مبدأ اختيار الأمة لولي الأمر، وهيمنت آلية "من اشتدت وطأته وجبت طاعته" على الفقه الإسلامي السياسي. ثم أخذت الأحاديث التي تحث على طاعة ولي الأمر بالهيمنة على الفقه السياسي الإسلامي، بسبب أن القرآن لم يتعرض لمسألة الحكم أو شكل الدولة.
ثانياً أن هذه الآلية، وبالصيغة التي هي عليها لا تؤسس لشرعية حقيقية وراسخة للحكم، بل تؤسس لموقف عملي ينطلق من قبول ا