لا تعد أزمة الحريات في بعض مجتمعاتنا وليدة القوانين الاستثنائية والاستفتاءات الشعبية، ولكن قد تمتد جذورها إلى جانب من تراثنا القديم يكفّر جميع الفرق المختلفة، وتبرير العقل للمعطيات دون تحليلها، وسيادة الرؤى الإيهامية دون الحوار العقلي بين البدائل، وحرفية التفسير أحياناً، والتأويلات اللغوية والنصية التي تغفل معطيات الواقع، وسلطوية التصور، وهرمية البنيان النفسي لشعورنا، وكل ذلك -في الواقع– يحتاج إعادة بناء حتى يمكن تجاوز أزمة الحريات. وفيما يتعلق بالتطبيع الثقافي مع إسرائيل قد يدخل الاستعمار أيضاً مع الصهيونية لإثبات فشل مشروعنا القومي الذي وضعناه بعد ثوراتنا العربية في النصف الثاني من القرن الماضي: معاداة الاستعمار والصهيونية، وبالتالي ننهي تعاوننا مع حركات التحرير العالمي، ونغير أحلافنا من المعسكر الاشتراكي سابقاً إلى المعسكر الرأسمالي، أو الرجوع إلى الحليف التقليدي في الغرب، وإلى اقتصادنا التقليدي في الرأسمالية. وتعمنا قيم الغرب الاستهلاكية، وتضيع هويتنا القومية، ويضيع ما حاولناه منذ «طلعت حرب» من محاولات إنشاء اقتصاد قومي وصناعة قومية. لقد حاولت الصهيونية ابتلاع الأرض -أرض فلسطين- ثم تحاول الآن القضاء على الشعب -شعب فلسطين- بسياسة المستوطنات في الضفة الغربية وغزة والقدس، واستئصال شعب فلسطين من جنوب لبنان، كما تحاول القضاء على مجرد الاسم. وقد تتوهم إمكانية تصدير البديل: إسرائيل والصهيونية، تحاصر مصر وتعزلها عن العالم العربي، فهي وإسرائيل جزيرتا الحضارة وسط الشعوب «الهمجية» كما قال أحد كتابنا! ويفتخر كاتب آخر بأن جذوره إسرائيلية! وهناك ضرورة لاستمرار الروافد الثقافية للنهضة التي بدأت منذ مائتي عام، فالتجديد يستطيع أن يربط بين العقيدة والثورة، بين التوحيد والتحرر، بين الحياة الأدبية ومقاومة الصهيونية، بين الروح والبدن، حتى تتحول الثقافة في حياتنا إلى فلسفة للمقاومة والصمود، ويستطيع الفكر العلماني إعادة تحريك دعواه إلى العلم والتقدم والاشتراكية والحرية، فهي أفكار ما زلنا نتخوف منها. ويستطيع ما حاوله لطفي السيد والطهطاوي من تأسيس للأمة والدستور، ودعوة لقيام الدولة الحديثة، أن يعيد ما خسرناه. لا مفر أمامنا إلا إجراء حوار حول الوحدة الوطنية ضد التسلط الثقافي وواحدية الرؤية، حوار بين اليمين واليسار، بين الاتجاهات الدينية والاتجاهات العلمانية، ويدخلان كطرفين في الحوار، وكانت ثورة يوليو 1952 قد حاولت تطوير الواقع متجاوزة الأيديولوجيتين. ولا مفر أمامنا إلا أن نتحمل مسؤولية الثقافة ضد الحرفية وضد إيقاع المثقفين في التخصص المهني، وكأنهم آلات إنجاز أو خبراء أجانب، وضد التكسب وعمليات التجارة والأساليب السلبية في حياتنا الثقافية، وضد الهجرة إلى الخارج، ونزيف عقل الأمة في العالم العربي أو في أوروبا وأميركا، فالمقاومة في الداخل وليس في الخارج، وتغيير الأمر الواقع خطوة أفضل من عشرات المجلات وجرائد المعارضة في العواصم الأجنبية، وضد الهجرة إلى الداخل والانزواء والانطواء والاكتئاب والإحباط واليأس. لا مفر أمامنا إلا الصمود الذاتي داخل الدوائر الثقافية المتاحة والقيام بمبادرات فردية في نشر محاولات الإبداع للأدباء والمفكرين الشبان. وعادة تبدأ الثقافة في الازدهار في أحلك اللحظات التي تمر بها الأمم، وفي أقصى ساعات الهزائم، فإذا ما عجزت الجيوش والنظم استطاعت الأقلام والعقول الصمود. *أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة