النوايا الحسنة..حول سد النهضة
بشرت معظم المظاهر الاحتفالية حول «وثيقة سد النهضة» فى الخرطوم في 23 مارس 2015، بحالة تفاؤل، عبرت عنها الخطابات والتعليقات في عواصم مصر وإثيوبيا والسودان، في إطار ما سماه معظم المعلقين بـ«إعلان النوايا» الحسنة بين الأطراف لصياغة موقف جاد حول مسألة شائكة.
بدا حشد الحاضرين في الخرطوم معبراً أولاً عن نية السودان لتحريك موقفها الذي بدا عند المصريين منحازاً إلى حد ما، أو كبيراً، للتعنت الإثيوبي، فأصبح أقرب للوسط، وترضية كل الأطراف بضيافة دبلوماسية عالية، بل وإن استحضار تمثيل معظم دول حوض النيل المهمة مثل الكونغو وأوغندا، فضلاً عن ممثل البنك الدولي. وكلها حملت الإشارات إلى رغبة في العمل الإقليمي لتجاوز الأزمات الثنائية، والبحث عن أصدقاء لمشروع السد الذي بدت مصر مسلمة بوجوده كحقيقة واقعية، بعد أن كانت أصوات كثيرة تحرض على إعلان ساذج برفضه، ولابد أن المصريين بدوا بعد نجاح مؤتمر شرم الشيخ لدعم الاقتصاد المصري، ودعوة الرئيس السيسي لتكرار انعقاده في ضوء مفهوم لحشد المحتاجين والممولين معاً. مما ينبئ بقدرة مصرية على المشاركة في عملية تنمية إقليمية تفيد إثيوبيا والسودان وغيرهما، لو نجح تنسيق حقيقي لإغراء المستثمرين والمجيئ بهم بهذه الروح العام القادم. وقد ألمح بعض الخبثاء أن إثيوبيا نفسها جاءت لشرم الشيخ بهذا المستوى العالى دون غيرها من الدول الأفريقية واعية بمعنى وجود الرئيس الإثيوبي نفسه وسط الممولين وعلى أرض مصر، مما يسهل جذبهم بدورهم إلى أرض «النهضة»!
لذلك شعرت بمسألة النوايا الحسنة المشار إليها في أكثر من توجه في مؤتمر الخرطوم ووثيقته التي سميت «إعلان المبادئ» لكي تتجنب ببراعة إشارات كانت تلح عليها مصر من قبل عن "الحقوق التاريخية"، وتتجنب إثيوبيا والسودان الإشارة إلى "اتفاقية الإطار" المسماة بـ"اتفاقية عنتيبي"، وقد يكون ذلك سبباً لما لاحظه بعضنا من مبالغة الطرف الإثيوبي فى خطاباته على الوقوف عند التعميمات، والجمل المفتوحة على احتمالات المستقبل، للتفاوض أو التراضي، بينما كانت خطابات "السيسي" تميل طول الوقت لضرورة التوصل لاتفاقات محددة، ومواعيد للانتهاء، ولجان محددة الهوية..الخ وجاء "إعلان المبادئ" محاولاً ترضية هذا النزوع المصري بدرجة ما حين ينص على "التنسيق" في استخدامات المياه وتأثير استخدامها في دولة بالنسبة للأخرى. أو النص على «التعاون في عملية الملء الأول للسد وإدارته»، بل وفي بند آخر ينص على «التنسيق في تشغيل» سد النهضة «مع خزانات دولتي المصب» وإنشاء آلية تنسيق.
جاء كل ذلك طيباً ومرضياً لمصر، لكن الوثيقة لا تضع إلتزاماً قانونياً في الإجراءات، رغم إشارتها في أول بنودها إلى «اعتبارات القانون» الدولى، لكنها دائمة التخفيف بعد ذلك من الالتزام القانوني أو التحكيم القانوني الدولي عند الاختلاف حول تقارير اللجان، بل إن المسألة مرهونة دائماً بـ«الاحترام المتبادل»، والانتهاء عند لقاء الرئيسين! وذلك كله بالتزامن مع الاستمرار في بناء السد! وهو الأمر الذي يخيف المصريين، وإنْ كان الخائفون لا يقدرون أن إثيوبيا لا تستطيع الانتهاء من البناء دون تمويل مواز أيضاً، حيث تشعر أن الممولين يرتبطون بوضوح بمدى رضى دول المصب بسبب القانون الدولي العام، أو بسبب وفرة مصالح الواقفين وراء السد من الإيطاليين والصينيين، والهنود مع مصر، ووزن مصر عند الخليجيين أنفسهم، ووزن هؤلاء جميعاً عند البنك الدولي، الذي يقوم بدور العراب الخبيث في كل مسائل المياه والطاقة لأنهار أفريقيا خاصة. وهذا ما ننبه له دائماً من أن عولمة مشروعات المياه والطاقة، أصبحت فى يد الشركات الكبرى متعددة الجنسية والبنك الدولي، مما يجعل الدول بمفردها ليست صاحبة القرار النهائي.
وقد جاءت زيارة الرئيس المصري لإثيوبيا عقب إعلان المبادئ السابق في الخرطوم، إعلاناً إضافياً عن النوايا الحسنة، لتوثيق علاقة البلدين، تمثلت في بيان امكانيات متفائلة لمصر بدفع عجلة التنمية المتكاملة مع دول حوض النيل، والعناية بصيغة كتلة حوض النيل، في مواجهة تدخلات أجنبية - ألح السيسي على الإشارة لها- بعضها ذو طابع شرير فعلاً على مستوى القرن الأفريقي أو مجموعة دول شرق أفريقيا (الإيجاد). لذا فإن إشارة وعناية المصريين بجنوب السودان في هذا السيناريو تتخذ أهمية بالغة في تقديري، سواء لأهمية المشروعات المائية والزراعية، أو لأهمية جنوب السودان كمعبر حقيقي وذي معنى لساحة كبيرة في شرق ووسط أفريقيا، تجعل الكونغو بدورها غير بعيدة المنال في توازن يستحق التفكير.