«لتعارفوا» في «دروب2»
من أجمل البرامج الرمضانية التي عشتها وتفاعلت معها في هذا الشهر الفضيل، وأكثرها تميزاً وثراء، برنامج «دروب 2 -لتعارفوا» عبر فضائية أبوظبي. عمل إبداعي فذ، ساهم في إعداده نخبة من الكتاب والإداريين والمصورين والإعلاميين المتميزين، ويقدمه الإعلامي الإماراتي الرائع «علي آل سلوم» بأسلوبه المشوق، عبر تجواله في دول ومناطق العالم، منفتحاً على الشعوب ومتعرفاً على الثقافات وأساليب المعيشة وأنماط المأكل والمشرب وطبيعة الأمكنة وأبرز معالمها وظواهرها الاجتماعية والثقافية.. إلخ.
هذا العمل الأخاذ، يأتي تجسيداً عملياً معاصراً للكلمة القرآنية «لِتَعَارَفُوا»، وما أجمل أن يبدأ بالمقدمة الغنائية الجميلة والمعبرة والمؤثرة في الوجدان، والمستوحاة من الآية الكريمة (.. وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..).
«جعلت شعوباً لا لتأجيج الخطوب... جعلت قبائل لا لتبرير الحروب
بل للتكامل والتعايش، طار سرِبُ حمامنا.. حتى يعم سلامنا كل الدروب
لتعارفوا... لتعارفوا».
هذا العمل الجميل، ليس برنامجاً سياحياً أو معلوماتياً مشوقاً، فحسب بل يحمل رسالة محبة للإنسان، أينما كان، وذات دلالات ثقافية راقية، منها:
1- غرس الإيمان بأن «الاختلاف» في المعتقد والدين واللغة واللسان والجنس والثقافة «حكمة إلهية عليا» اقتضتها إرادة الخالق تعالى من أجل التنافس الخلاق لإعمار الأرض وإثراء الحياة وتقدم البشرية، فالاختلاف، نعمة إلهية وآية من آيات الله تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ». وفي آية أخرى: «.. وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ..»، أي خلقهم مختلفين ليتنافسوا ويبدعوا ويكتشفوا، فيثروا الحياة.
2- الإفادة والتعلم من تجارب وثقافات الآخرين، بالانفتاح الإيجابي والحوار العقلاني، لبناء أرضية مشتركة تخفف من أسباب التوتر والمنازعات وتزيل سوء الفهم والظن، وتحجم الكراهية والتطرف والعنف، وتحقق السلام العام والأمن المشترك للجميع، وهو ما عبّر عنه القرآن الكريم بكلمة إعجازية «لتعارفوا» الشاملة لكافة أشكال التواصل الإنساني، تجارة ومصاهرة وتعاوناً ثقافياً وسياسياً وأمنياً واقتصادياً.
3- تصحيح «الصورة النمطية» التي يحملها كل شعب عن الآخر، بسبب ما يسمعه عبر وسائل الإعلام، أو الجهل، أو الرواسب النفسية والتاريخية، أو أوهام التآمر الخارجي والغزو الفكري إلخ، فهذا البرنامج الذي يقوم على المعايشة المباشرة، يساهم بشكل كبير في تصحيح التصور المشوه تجاه الآخر ويعمل على تحسين الصورة بما يعمق الروابط الإنسانية ويعزز المشترك الأخلاقي، ويقرب الشعوب لبعضها البعض.
4- اكتشاف أنفسنا، من خلال الآخر، فالإنسان مرآة الآخر، والشعوب ترى نفسها من خلال مرآة الشعوب الأخرى، والإنسان لن يعرف نفسه حق المعرفة، إلا من خلال تواصله مع الآخر وتفاعله معه؛ أخذاً وعطاءً.
5- نشر ثقافة المحبّة والتسامح والتعاون والتعايش وبذر الخير، وهي كلها قيم ديننا، أكدها في العديد من نصوص القرآن والسنة، وطالبنا بنشرها عالمياً.
ومن المهم -هنا- الإشادة بالوصية التي يكررها مقدم البرنامج، باعتبارها وصية والده له، وأراها وصية تربوية مهمة، ينبغي تعليمها للناشئة في مدارسنا وفي بيوتنا وعبر إعلامنا وخطابنا الديني والثقافي، وملخصها أن والد علي يقول له: يا ولدي علي: سافر وتواصل وتعرف وابن جسور المحبة بينك وبين الناس، وتذكر أننا لسنا وحدنا الذي نعيش في هذه الحياة، وأن الله تعالى ما خلق الناس ليتحاربوا ويتنازعوا ويبنوا أسواراً وحواجز وحدوداً تفصل بينهم، بل خلقهم مختلفين حتى يتعاونوا ويتعارفوا، ويحبوا بعضهم بعضاً، يا ولدي علي: إن الله خلق هذا الكون الفسيح لنتأمله ونسبح بقدرة الله تعالى، وأعطانا هذه الحياة، لنعبده ونعمر الأرض ونتعلم من بعضنا بعضاً، وهذه الدنيا الواسعة يمكن أن تضيق، إذا تخلينا عن إنسانيتنا، فهذه الإنسانية هي التي تجمعنا، إذا تخلينا عنها ابتعدنا عن الخالق عز وجل، يا علي: كل درب صعب، لكنه يعطيك دروساً وعبر وفوائد في حياتك، تعلم من هذه الدروس وبلغها وأنشرها لأصحابك وناسك وأصدقائك، وابذر الخير في دروبك.. فالخير يأتيك في الدنيا والآخرة.
ختاماً: لو كنت مسؤولاً رسمياً، لجعلت طلابنا في المدارس والجامعات يتفاعلون مع هذا البرنامج في أنشطتهم التعليمية، لأنه خير تحصين لهم من أمراض التطرف والكراهية.
ويبقى أن أقول: تحية لك أخي علي على هذا الجهد الفني والإنساني الرائع.