"اقتصاد المفاضلة".. آفاق جديدة
منذ زمن بعيد، احتلت ثقافة المفاضلة trade- off بين الخيارات التجارية أو الصناعية المتاحة، مركزاً محورياً في الاقتصادات العالمية، وتعتمد هذه الثقافة على حكمة بديهية تقول: «لا يمكنك أن تحصل على شيء من دون التنازل عن شيء آخر»، ومن أشهر الأمثلة التي تؤكد أهميتها في اقتصادات العالم عبر التاريخ تلك التي كانت تتم تحت عناوين مختلفة، منها: «المدفع أم الزبدة؟»، و«الفعالية أم المساواة؟»، و«حماية البيئة أم النمو الاقتصادي؟»، و«الاستهلاك أم الاستثمار؟»، و«التضخم أم البطالة؟» و«النوعية أم الكمية أو التكلفة»، و«الإنجاز قصير المدى أم طويل المدى؟».
وثقافة المفاضلة هي سلوك متكرر في أوساط العائلات ذات الدخل المحدود التي كثيراً ما تحتاج لاتخاذ قراراتها فيما يتعلق بالسلع التي تقرر شراءها أو تصرف النظر عنها، وهذا يعني أن المجتمعات ذاتها محكومة بهذه الثقافة، والاقتصاديون محقّون عندما يشددون على أهمية القدرة على الاختيار بين الأهداف المتناقضة عندما يخططون سياساتهم، كما أن علم اقتصاديات المفاضلة يساعد على اكتشاف الطرق السياسية المسدودة والخطط الاقتصادية العقيمة ويوعز بطريقة تجنبها.
الخبرات الراهنة توحي بأن تطوير الحوافز أو توظيف استثمارات استراتيجية يتيح لنا تحقيق الأهداف صعبة المنال.
لنأخذ مثلاً قانون الرعاية الصحية في الولايات المتحدة، فلقد تكشّف لصناع القرار منذ الوهلة الأولى أن عليهم النظر إلى جملة من الخيارات والمفاضلة بينها مثل العلاقة بين التكاليف وكل من كمية ونوعية الخدمات الصحية المقدمة، وكان الجدل يدور حول الفرضية التي تفيد بأن إجراءات تخفيض التكاليف لا بد لها أن تؤدي أيضاً إلى تخفيض مستوى العناية بالمرضى.
وتوحي الخبرة التي اكتسبناها منذ عام 2010، عندما تم التصديق على قانون الرعاية الصحية، بالخطأ الكامن وراء النظرة التقليدية إلى الأمور، فلقد تزايد حجم التغطية الشاملة للرعاية الصحية بشكل كبير، إلا أن التكاليف التي كانت تنمو وفق وتيرة أسرع بكثير من سرعة نمو الناتج المحلي الإجمالي خلال نصف قرن، تراجعت الآن حتى أصبحت تتطابق في سرعتها مع الناتج المحلي الإجمالي، وأدى ذلك إلى توفير التكاليف بالنسبة لقطاعي الرعاية والتأمين الصحي، وما من أحد يمكنه حتى الآن أن يفهم بشكل جيد لماذا انخفض الخط البياني لتكاليف الرعاية الصحية بشكل حاد، إلا أن معظم الخبراء يعتقدون بأن نظام التسديد الناجح وخطة فرض العقاب على من يخالف القانون لعبا دوراً مهماً في تحقيق هذا التطور الإيجابي.
وهناك مثال مستقى من قطاع مختلف تماماً يتعلق بالمفاضلة بين المساواة في توزيع الثروات وفعالية الأداء الاقتصادي، وهناك تخوف من أن يؤدي اقتراح إعادة توزيع الثروات إلى تعطيل الأداء الاقتصادي وكبح النمو، وصحيح أن زيادة الضرائب يمكن أن تلعب دوراً معاكساً للدور الذي تلعبه الحوافز، إلا أن الأمر يبدو أكثر تعقيداً بكثير من كونه مجرد مفاضلة بين قرارين. ونحن نعيش الآن في عصر لم يعد تحقيق الأهداف الاقتصادية الصعبة فيه رهيناً بالسياسة العامة أو الحكومية، ومن أمثلة ذلك أن هنري فورد (صاحب ومؤسس مصانع السيارات في ديترويت)، عندما اتخذ قراره الشهير بمنح كل عامل 5 دولارات عن يوم العمل الواحد، دفع عماله إلى العمل بشكل أفضل، وأدى ذلك إلى زيادة عوائده وأرباحه، وبسبب هذا النجاح، سارعت العديد من الشركات لأن تحذو حذوه، ومنها ما أقدمت على إجراء مماثل خلال الأشهر القليلة الماضية مثل شركة «آيتنا» Aetna، و«والمارت» وغيرهما، واتفقت معظم التقارير الصادرة عن الشركات الأميركية على أن زيادة الالتزام بالمسؤوليات الاجتماعية بشكل عام، زاد من أرباحها لأنه جعلها أكثر جاذبية للعمال الأكفاء والزبائن على حد سواء، ولا يجوز النظر إلى ثقافة المفاضلة الاقتصادية باعتبارها تمثل قيوداً جديدة تضاف إلى مهمة اختيار خطة العمل، بل باعتبارها تمثل تحدّيات لا بد من تجاوزها والتغلب عليها.
ـ ـ ـ ـــ ـ ــ ـ ـ ــ ـ
لورنس سمرز*
ــ ـ ــ ــ ـ ـ ـ ـ
مستشار اقتصادي سابق للرئيس أوباما وعميد سابق لجامعة هارفارد
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»