يعيش لبنان وضعاً سياسياً غريباً، وأغرب ما فيه أن شعباً عريقاً دخلت إلى أرضه مظاهر الديمقراطية والمشاركة السياسية القائمة على إسهام الجماهير بشكل مباشر، ووضع لنفسه دستوراً حديثاً منذ سنوات طويلة محققاً سبقاً وريادة واضحة مقارنة بأشقائه من الدول العربية الأخرى، لا يزال عاجزاً عن انتخاب رئيس جديد له منذ عدة سنوات! فرغم وضوح العملية وسهولتها وفقاً للدستور المعمول به حالياً والإجراءات المتبعة بهذا الشأن، إلا أن العملية تراوح مكانها منذ مدة ليست بالقصيرة رغم المحاولات المتكررة التي جرت بهذا الشأن وفشلت جميعها حتى كتابة هذه السطور. وهذا الوضع الشائك وغير الطبيعي له أسبابه غير المنطقية التي تعمل جهات داخلية وخارجية على تأجيجها والنفخ فيها من دون هوادة مذكية بذلك نارها ومعرقلة مساراتها، كلٌّ وفقاً لأهوائه ومصالحه وارتباطاته وعلاقاته متناسين في خضم ذلك لبنان كوطن يئن من الألم الشديد مما يفعله به أبناؤه الذين عجزوا حتى الآن ومنذ عام 1975 عن إنقاذه مما هو فيه. إن الصورة التي يخرج بها المرء من النظر إلى المشهد اللبناني الحالي مدهشة ومثيرة للقلق الشديد ومتناقضة، وللوهلة الأولى محيرة بدرجة كبيرة، وتعكس بروزاً لدرجة الكثافة لضبابية الصراع الدائر حول نفس القضايا الأساسية التي لا يعتمد عليها مصير لبنان المستقبلي فقط ولكن حول تلك التي يتوقف عليها أيضاً تحقيق الاستقرار والأمن والسلام والتنمية على مدار المنطقة العربية وجوارها الجغرافي. ويبدو أن المعركة الشرسة التي تدور على الأرض اللبنانية تحتوي على عناصر رئيسية من المواجهة الدائرة على النطاق العالمي بين القوى المحبة للحرية والسلام والتقدم من جانب، وبين القوى المضادة لها التي لا تشاء للعرب سوى القلاقل المستمرة والصراعات والتخلف وغيرها من مظاهر الشرور المستطيرة، وخاصة تلك الأدوار التي تلعبها إيران في لبنان وسوريا واليمن والعراق حالياً. وكما تشير تطورات الأحداث فحل المعضلة اللبنانية ليس بالأمر السهل، ولكن ذلك يجعل من الضروري البحث عن مخارج ووسائل وطوق نجاة للخروج منها، وتقوية ودعم الأطراف اللبنانية الشريفة التي تسعى لإيجاد مثل تلك الحلول، والتصدي للعبث والتأجيج والتخريب الذي تمارسه كافة الأطراف غير الحريصة على المصالح اللبنانية، والوقوف إلى جانبها في سعيها للمحافظة على اللحمة اللبنانية وهوية لبنان العربية. وفي خضم هذه المعركة الشرسة التي تعصف بلبنان وتسهم في خرابه من الواجب على العرب أجمعين تأكيد هوية لبنان العربية البعيدة عن الارتباط بالجهات غير العربية التي لا تريد للبنان أو للعرب الآخرين خيراً وإن ادعت غير ذلك، والتعبير عن التزامهم الواضح والصريح بحل هذه المشكلة الكبرى على أسس من هوية لبنان العربية الخالصة. وهذه الأسس تملي على الجميع الخروج بمقترحات راديكالية غير مسبوقة قوامها عدة أمور: أولاً، كيفية اجتثاث مظاهر الطائفية البغيضة التي يبتلى بها لبنان وتشكل جذوة الأسباب التي تسببت في المشكلة اللبنانية الحالية في أصولها الأولى، وخاصة تلك المرتبطة بالديانات والمذاهب والأعراق، التي تنخر جسد مؤسسات البلاد السياسية. ثانياً، كيفية إجراء تغييرات جذرية في نظام التمثيل الشعبي، خاصة الانتخابات البرلمانية بحيث تقوم على المواطنة وليس المحاصصة ويصبح للمواطن اللبناني صوت واحد بغض النظر عن انتمائه العرقي أو الديني أو الطائفي. ثالثاً، كيفية توزيع السلطة على أساس من المساواة بين الجميع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، بحيث تصبح السلطة التنفيذية مركزة بشكل رئيسي في أيادي حكومة تسيطر عليها الجماهير والبرلمان. رابعاً، تحديث نظام الدولة اللبنانية الإداري والتشريعي لزيادة مستوى مساءلة موظفي الدولة عن أخطائهم. خامساً، إعادة تنظيم القوات المسلحة التابعة للدولة اللبنانية، وتقويتها في مواجهة مليشيات الطوائف الدينية والمذهبية. سادساً، وأخيراً، القضاء المبرم على التدخلات الخارجية الأجنبية، وعلى عملاء الدول غير العربية والمليشيات المسلحة التي يعتمدون عليها لإرهاب اللبنانيين الآخرين من غير مذهبهم.