«الوطن المستباح» لفظان نقيضان لا يجتمعان. فالوطن حبيب إلى القلب. والاستباحة كريهة إليه. وما أكثر ما شبهت الحبيبة في الشعر والأدب عموماً بالقلب. ونودي عليها «يا قلبي». والاستباحة في الثقافات كريهة، لأنها اغتصاب وعنف وفرض لإرادة الغير على إرادة الأنا. الوطن لا يكون إلا حراً كريماً. والاستباحة تُقاوَم وتُصد مثل الاستعمار والاحتلال وخرق للحرمات الفردية والاجتماعية. فكيف يُجمع بين اللفظين المتعارضين في مفهوم واحد، وهما لا يجتمعان إلا بمنطق «إما... أو». تاريخياً لما سقطت الإمبراطورية العثمانية قسمت القوى الاستعمارية وقتئذٍ ممتلكاتها إلى دول طبقاً لمكونات تاريخية أو جغرافية أو سكانية، وطبقاً لمفهوم الدولة الغربي بعد سقوط الإمبراطوريات النمساوية والمجرية وغيرها، وقد وقع هذا التقسيم فيما يُعرف بمعاهدة «سايكس- بيكو». ثم قامت حركات التحرر الوطني لطرد المستعمر في كل أرجاء الوطن العربي والعالم الإسلامي حتى تصبح الدول الوطنية دولًا ذات سيادة فعلية وليست مجرد أشكال سياسية. ونشأت حركات المقاومة حتى طردت القوات الأجنبية، واستقلت الدول، وتحول رؤساء الحركات الوطنية إلى رؤساء لها بفعل المقاومة والتاريخ. ثم سرعان ما ضعفت هذه الدول الجديدة لما طرأ عليها من نظم عسكرية استبدادية أو فساد اقتصادي. كما نشبت أحياناً بين كل دولة وجيرانها مناوشات عسكرية، خلافاً على الحدود مثل المغرب والجزائر في حرب الرمال، وليبيا ومصر حول قبائل أولاد علي، ومصر السودان حول حلايب وشلاتين ووادي حلفا، وقطر والبحرين حول بعض جزر الخليج، والكويت والعراق حول آبار نفط شمال الكويت وجنوب العراق، ومصر وفلسطين حول مثلث العوجة، وسوريا وفلسطين حول وادي لحمة. وبدأت استباحة الوطن العربي باحتلال جزء من فلسطين، وطرد شعبه خارج أرضه، وإسكانه مخيمات في الدول المجاورة. ضاع نصف فلسطين في 1948، واحتل النصف الآخر في 1967. وزرعت كلها مستوطنات حتى لم تبق فيها إلا جزر عربية منعزلة، مواطنون من الدرجة الثانية كالمواطنين السود في الولايات المتحدة قبل إعلان الحقوق المدنية، أو في جنوب أفريقيا قبل الاستقلال. وتستمر استباحة الوطن من الخارج، إسرائيل التي لم تكن قد تكونت بعد، ثم العدوان الثلاثي على مصر 1956 رد فعل على تأميم قناة السويس. وبعد هدوء نسبي بعد انتصار 1973 تعود الاستباحة من الخارج بعد ثلاثين عاماً تقريباً بالعدوان الأميركي المباشر على العراق. وفي «الربيع العربي» استبيحت سوريا من جيش النظام بدعوى تطهيرها من العنف و«داعش». وتؤيد بعض الدول التدخل الروسي في سوريا، ويتخلى العالم عن الثورة العربية السورية والشعب السوري لحساب المصالح وموازين القوى! كما استبيح اليمن من طرف تدخلات إيران وعملائها الحوثيين. وضربت قوات حلف شمال الأطلسي ليبيا بدعوى تأييد الثورة الشعبية حيث الصراع على النفط. وتغزو روسيا سوريا حبيبة قلبها! وقد تكون الاستباحة من الخارج، عندما يكون الوطن قوياً على الحدود مثل مصر. فتنشأ جماعات العنف مثل «القاعدة» وتنظيم «داعش» في سيناء شرقاً أو في ليبيا غرباً من أجل إشغالها من الداخل. ويختلط الحابل بالنابل. فتنشغل مصر بحدودها. وتحارب كما يفرض ذلك عليها الواجب الوطني. نزاعات في الأطراف بالخارج وعلى الحدود، وتحدي الإرهاب في الداخل، فينهار الجسد كله، لا سمح الله، وبالتالي تتفتت المنطقة كلها! فلا قلب يسندها ولا أطراف تأخذ بها. فإلى متى يظل الوطن العربي مستباحاً؟ إلى متى يظل محاصراً من كل اتجاه لا مخرج من مأزقه إما القفز على السور أو الصراخ أو الرضا بالقضاء، وهو جزء من الثقافة الشعبية؟ وكيف يمكن تجاوز حالة الإحباط الموجودة لدى من قاموا بثورة 25 يناير 2011، على رغم ما حدث فيها من تموجات واستقطابات وغياب قادتها غير المسيّسين وبرنامجها وخبرتها الثورية. ---------- أستاذ الفلسفة - جامعة القاهرة