ليست الأزمة الراهنة – الأخيرة بين المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجيّ وبين لبنان، المرة الأولى التي يقف فيها «حزب الله» وجهاً لوجه ضد مصالح لبنان واللبنانيين، فيقوم بكلّ ما يسيء إليها كرمى لإيران ولاحتفاظه بسلاحه. وغني عن القول، حتى لو اقتصرنا على حساب المنافع وحدها، أن المصالح التي تربط لبنان بإيران أصغر بلا أيّ قياس من تلك التي تربط لبنان بدول مجلس التعاون، حيث آلاف العائلات تعيش على التحويلات الماليّة لأبنائها المقيمين هناك، فقبل هذه المحنة، كانت محنة التورّط العسكريّ الواسع في الحرب السورية، ضداً على رغبات فئات عريضة من اللبنانيين، وبالطبع فإن تورطاً كهذا في وسعه أن يخرّب العلاقات اللبنانية – السورية لمستقبل قد يطول. وعلى الدوام تولى «حزب الله» تخريب علاقات لبنان بالعالم، لا العالم الغربي الأميركي – الأوروبي فحسب، بل أيضاً بعض دول أفريقيا وأميركا اللاتينيّة، وهنا ثمّة ملف سميك بعضه إرهاب وبعضه مخدرات أو تبييض عملات. فكأن «حزب الله» – والحال هذه – يحاول عامداً متعمداً أن يسيء إلى اقتصاد لبنان وعلاقاته الخارجية، فضلاً عن صورته. يندرج في هذه الخانة كون لبنان بلد مهاجرين، والهجرة الأكبر اليوم هي إلى الخليج، لكنه أيضاً بلد طالب للاستثمارات، ومتطلب للاستقرار المشجع على الاستثمار وعلى السياحة والاصطياف، وكلّ هذا مما يدمره «حزب الله» ومقاومته على نحو منهجي. وهنا لا بأس باستعادة بعض المقومات الأساسية التي نهض عليها هذا البلد الصغير والفقير، والتي من دونها لا يبقى أي أثر فاعل له. فأولاً، في مجال المسائل السيادية، وفي طليعتها السياسة الخارجية، لا بد من التوافق بين الطوائف والجماعات اللبنانية على السياسات التي تُعتمد والسياسات التي تُنبذ. فإذا حصل إخلال بهذا المبدأ كان الأمر تمهيداً لحرب أهلية سبق أن شهدنا في التاريخ الحديث أكثر من عيّنة دامية عنها. وثانياً، وتبعاً لتركيبه السكاني والثقافي، لا تقوم قيامة للبنان خارج العلاقات الممتازة مع الدول العربية ودول الغرب في آن معاً، والحال أنه حتى اندلاع الحرب الأهلية التي عرفت بحرب السنتين (1975 – 1976) عاش لبنان وسيطاً اقتصادياً وثقافياً بين الطرف الأقرب والطرف الأبعد، محقِّقاً بهذا أعظم نجاحاته. يكفي القول إنَّ لبنان، رغم قلة موارده، عرف أعرض طبقة وسطى في الشرق الأوسط. وثالثاً، وبناء على العنصرين المذكورين أعلاه، يغدو حياد لبنان عن الصراعات الكبرى شرطاً شارطاً لوجوده واستمراره. واقع الأمر أن «حزب الله»، ومنذ نشأته في مطالع الثمانينيات، إنما أمعن في تحدي هذه المقومات جميعاً، دافعاً بلبنان إلى الاصطفاف في المحور الإقليمي لإيران، ومخرباً علاقاته بالدول العربية، فضلاً عن الغربية (التي خطف رعاياها في بيروت لإعطاء إيران موقعاً تفاوضياً أقوى حيال الولايات المتحدة، إبان الحرب العراقية – الإيرانية)، وبطبيعة الحال فإن إصراره على التمسك بسلاحه، بذريعة مقاومة إسرائيل التي انسحبت من لبنان آحادياً في 2000، ألغى وجود سلطة فاعلة وقادرة على تنفيذ الإجماعات الوطنية وترجمتها في سياسات معتمدة. ولا بد من القول بكل صراحة أن ما أتاح لـ«حزب الله» أن ينفذ هذا البرنامج التخريبي المتعدد الحلقات يكمن في ثلاثة عناصر متلازمة: الدعم الإيراني بالسلاح والمال، والتعبئة حول فكرة المقاومة بوصفها الاسم الحركيّ لتطلعات ورغبات طائفية محددة، ودور النظام الأسدي إبان وصايته على لبنان في رعاية الحزب كقوة عسكرية وكقوة إيديولوجية. هكذا انتهينا إلى وضع شديد البؤس، حيث إن ثلثي اللبنانيين عاجزون عن التعايش مع هيمنة حزب الله وبندقيته وسياسته الخرابية، إلا أنهم وبالقدر نفسه عاجزون عن إنهاء هذا الوضع الشاذ.