أضاف موت قاضي المحكمة العليا الأميركية «أنطونين سكاليا» الأسبوع الماضي تعقيداً جديداً وغير متوقع في المشهد السياسي الأميركي بات يتحدث عنه الجميع. ولكن هل ستكون لهذا تداعيات مؤثرة؟ وإذا كانت الإجابة «نعم»، فكيف سيحدث ذلك؟ يتعلم التلاميذ الأميركيون أن دستور الولايات المتحدة يفصل بصورة متعمدة بين ثلاث مؤسسات سياسية هي: الرئاسة، والكونجرس، والمحكمة العليا، بحيث توازن كل منها الأخرى، ولا تتمتع إحداها بالسلطة المطلقة. ولكن في الوقت الراهن أفضى هذا التوازن في كثير من الأحيان إلى حائط مسدود وحالة من الجمود. وأصبح الكونجرس أشد استقطاباً في الوقت الراهن بين «الجمهوريين» و«الديمقراطيين»، وكانت في المحكمة العليا أيضاً أغلبية ضئيلة محافظة بنسبة 5 إلى 4، وغالباً ما كان أحد القضاة يرجح إحدى الكفتين، في حين دأب الكونجرس ذو الأغلبية «الجمهورية» على محاولة عرقلة ما يرغب الرئيس «الديمقراطي» في فعله. غير أن موت «سكاليا» المفاجئ، الذي كان يعتبر أكثر قضاة المحكمة التزاماً بالمبادئ المحافظة، أفضى إلى إنهاء أغلبية المحافظين السابقة في المحكمة العليا بنسبة 5 إلى 4. وإلى أن يتم شغل المقعد الشاغر، فإن التصويت على كثير من القضايا سينتهي به المآل إلى 4 مقابل 4 أصوات من دون ترجيح، وبالتالي، فلن تصدر المحكمة العليا حكماً في هذه الحالة! ولأن قرارات المحكمة العليا ذات تأثير مهم على السياسة الأميركية، ويبقى أثرها مدى الحياة، فإن أنصار الرئيس أوباما مبتهجون بإمكانية انضمام قاضٍ تقدمي إلى هيئة المحكمة، وتغيير ميزان الـ5 إلى 4 هذه المرة لصالحهم. ويتصورون أن المحكمة بمثل هذا التشكيل ستحاول نقض قرارات محافظة تم اتخاذها مؤخراً، مثل ما يسمى بقضية «المواطنين المتحدين»، التي سمحت للسياسيين المحافظين بجمع مبالغ مالية غير مسبوقة. ويتوقعون أيضاً أن يؤدي تغيير الأغلبية في المحكمة العليا لصالحهم إلى حماية حقوق الإجهاض الموجودة التي يخشون من تعرضها للخطر في ظل سيطرة المحافظين على المحكمة. ولكن الدستور الأميركي يمنح أيضاً مجلس الشيوخ سلطة الموافقة على أي مرشح جديد في المحكمة العليا، وقد أكد الرئيس «الجمهوري» لمجلس الشيوخ «ميتش ماكونيل» بالفعل أنه وحزبه سيعرقلان أي مرشح يطرحه أوباما. ويرى «ماكونيل» وأعضاء «جمهوريون» بارزون أن الرئيس المقبل هو من ينبغي أن يقدم الترشيح، لأنهم يأملون أن يتم انتخاب رئيس «جمهوري»، ومن ثم، سيرشح محافظاً للمحكمة. ويرون أن أوباما يوشك على مغادرة المنصب، وينبغي ألا يعين قاضياً يستمر في عمله مدى الحياة. وفي المقابل يرد أنصار أوباما بوجود سابقة في عام 1978 عين فيها رئيس أميركي في عامه الأخير في المنصب قاضياً في المحكمة العليا، وبأن المحكمة لديها قضايا ملحة قد تتعرض للتجميد بسبب عدم وجود صوت مرجح لأكثر من عام إذا لم تتم الموافقة على مرشح أوباما. وهذا الاختلاف بشأن الموعد المتوقع لشغل المقعد التاسع في هيئة المحكمة هو موضوع استقطاب قائم بين الحزبين والمتوقع استمراره خلال الأشهر التسعة المقبلة، وبالطبع سيزعم أنصار أوباما أن «الجمهوريين» يقفون حجر عثرة أمامه مرة أخرى. ولكن لا شيء سيتغير على الأرجح، لأن الرهانات عالية، ومن المحتمل أن يواصل «الجمهوريون» عرقلة ترشيح القاضي التاسع حتى انتخابات نوفمبر، لأن لديهم الأصوات الكافية في الكونجرس لفعل ذلك، ويعتقدون أن منع أوباما سيكون انتصاراً سياسياً. ولذا، فربما تبقى الأزمة الراهنة في المحكمة العليا. والتأثير العملي لاستمرار الجمود في المحكمة العليا حتى الانتخابات الرئاسية هو أن القرار الأصلي لمحكمة أدنى درجة سيسود وتكون له آثار محلية فقط. وسيساعد ذلك أوباما في بعض القضايا الراهنة، مثل الهجرة، ويضره في قضايا أخرى مثل الرعاية الصحية والإجهاض. ومهما كان مَن سيتم انتخابه رئيساً في نوفمبر المقبل فإنه سيرشح القاضي التاسع، وسيكون له تأثير على قرارات المحكمة لعقود مقبلة. وتكشف لنا حالة الجمود في ترشيح قاضٍ للمحكمة العليا كثيراً من أبعاد الوضع الحالي للسياسة في أميركا. فعلى مدار السنوات السبع التي قضاها أوباما كرئيس، حاول مراراً وتكراراً العمل مع المعارضة «الجمهورية» لكن جهوده لم تحقق النجاح المرجو. وعارض قادة «الجمهوريين» في الكونجرس كل شيء تقريباً حاول أوباما فعله. وعارضوا سياساته حتى عندما كانت تتماثل بالفعل مع أفكار اقترحها «الجمهوريون» أنفسهم في السابق. وبدا أنهم مصممون على منع أي شيء أراده أوباما، بغض النظر عن ماهية هذا الشيء. وقد أعرب محللون سياسيون عن استيائهم من هذا الاستقطاب المتطرف في المشهد السياسي الأميركي، وفي الماضي القريب، كان الرؤساء والكونجرس ينجحون في التعاون سويّاً وإن اختلف انتماؤهم الحزبي. ولكن الآن يوجه كل طرف اللوم إلى الطرف الآخر بسبب قلة ما تم إنجازه بصورة مشتركة، وقد أكد أوباما من جانبه أن هذا الجمود كان هو أكثر الأشياء المحبطة له كرئيس لأميركا.